هل وَضَعَتْ فرنسا العربة قبل الحصان في "رئاسية لبنان"؟


 جاء في "الراي الكويتية":

عيداً بعد عيد، وساريةُ العَلَم في باحة القصر الجمهوري «المهجور» منكَّسة كما عيون اللبنانيين الذين تحوّلوا مجرد «حَطَب» في مشاريع جعلتْ الوطنَ الصغير مستودع أزمات يشتدّ اشتعالُها منذ أعوام. وكلما بدا أن طَرْدَ الفراغ الساكن في القصر الكئيب، بانتخاب رئيسٍ جديد، اقترب كلما ابتعد هذا الاستحقاق الذي استحق منذ نحو 10 أشهر، والسبب: فَتِّش عمّن بيدهم «الحل والربط» في بلاد تحْكمها موازين القوى وفقدان الوزن.

ولم يكن أدلّ على هذا المصير العَبَثي من الجلسة التي عقدها البرلمان في 14 الجاري لانتخابِ رئيسٍ لم يُنتخب رغم وجود مرشّحيْن جدييْن هما زعيم «تيارالمردة» سليمان فرنجية مدعوماً من فريق «الممانعة» بقيادة «حزب الله»، والوزير السابق للمال جهاد أزعور مرشح تقاطُع غالبية المعارضة مع التيار الوطني الحر، وحضورِ 128 نائباً وصندوق الاقتراع وكامل عُدّة اللعبة الديموقراطية.وفي قراءةٍ لأوساط سياسية تتابع عن كثب تطورات المواقف المحلية والخارجية من الاستحقاق الرئاسي، أجرتْها بعد المحادثات التي عقدها الوزير السابق للخارجية الفرنسية جان – ايف لودريان في بيروت بصفته موفداً شخصياً للرئيس ايمانويل ماكرون، أن ما سَبَق جلسة 14 يونيو الانتخابية في البرلمان من تَقاطُع داخلي على ترشيحه، كما ما أفرزتْه هذه الجلسة من نتائج جاء ليكرّس متغيّرات من نوع «أول مرة» أقله منذ فترة طويلة ولها تأثيرٌ عميقٌ على ما بدا إيقاعاً وحيداً جرى الاعتقاد أنه تم فرْضه في الاستحقاق الرئاسي وعليه. 

وبحسب الأوساط نفسها فإن المعادلةَ التي سادت الانتخابات الرئاسية في المرحلة الأولى كان عنوانها الأساسي أن المسار الخارجي هو الذي سيحدّد مصير هذا الاستحقاق واتجاهاته كما رُسمتْ ممّن اعتقدوا في لبنان أنهم ضبطوا ايقاعه كما يريدون وبما يجعل العنصر الداخلي هامشياً أو غير مؤثّر فيه.وقد تَعَزَّزَتْ هذه المعادلة مع دخول فرنسا الواضح على قاعدة تسهيل العملية الانتخابية وفق الخيار الذي اعتمده «حزب الله»، إلى أن برزتْ وللمرة الأولى منذ فترة طويلة مقاربةٌ داخليةٌ قامتْ على التلاقي على مرشّحٍ لم يفرضه الخارج ولا جاء السيرُ به نتاج تطورات إقليمية بل وليد عمل ودينامية محلية.

ويستحضر باحث خبير في تاريخ الانتخابات الرئاسية محطات نادرة في التاريخ اللبناني تَقدَّم فيها البُعد الداخلي على الخارجي في الانتخابات الرئاسية، وبينها انتخاب الرئيس كميل شمعون (1952) بعد تقاطُع مع كمال جنبلاط، ووصول الرئيس سليمان فرنجية في 1970 حين كان المسارُ الداخلي فاعلاً في الملف الرئاسي، وهذه المرة الأولى منذ تلك الحقبة تبرز دينامية لبنانية عكْس كل الاعتقاد بأن الداخل فَقَدَ أي قدرة على دور مُقَرِّر في الانتخابات الرئاسية. ويلاحظ الخبير نفسه المتغيرات التي عبّر عنها التلاقي الذي جرى على ترشيحه لجهة انها المرة الأولى يحصل توافق مسيحي شامل، برعاية من بكركي والفاتيكان، على مرشح ليس رئيس حزب أو رئيس تيار، بل اسم هو من الأكثر انفتاحاً على الطوائف الأخرى وعلى المنطقة، وعروبيّ. وهذا أمر نادر، إذ عندما حصل الحلف الثلاثي في 1968 – 1970 ذَهَبَ أكثر في اتجاه مقاربةٍ مارونية تقليدية.

ولكن اليوم، وللمرة الأولى ترتسم مقاربة وإجماع مسيحي على هذا المستوى على شخصية لا تمثّل «بروفايل» التقليد الماروني السياسي، أي مرشح ليس ابن زعامة سياسية، أو تيار حزب. وفي إطار معاينة المفارقات التي طبعتْ مسار ترشيحه، تُثار مسألة أن أول مَن سمى أزعور كان الزعيم الدرزي وليد جنبلاط مع كل وضْعه الخاص والعلاقة الخاصة التي تربطه بالرئيس نبيه بري، من دون أن يقلّ دلالةً تبنّي رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل هذا الترشيح، وهو من أبرز حلفاء «حزب الله»، مع توقُّفٍ عند أن هذا المسار بُني فيما كان الخارج وخصوصاً فرنسا تسير بمعادلة أن هناك مرشحاً يدعمه الحزب، وهو سليمان فرنجية، الذي تم العمل بكل الوسائل لإيصاله إلى حدّ أنه طُلب من السعوديين وآخَرين الوقوف جانباً لتسهيل مرور هذا المرشح، وإذ فجأة برزت الدينامية التوافقية الداخلية التي لم تبدأ بالأحزاب المسيحية الكبرى، بل من خلال مبادرة لبعض النواب المستقلين مثل غسان سكاف وغيره، وارتكزتْ على الأسماء التي سبق لجنبلاط أن طَرَحها، إلى أن أخذت هذه الدينامية مداها وكوّنتْ إجماعاً مسيحياً كبيراً ثم تلاقياً واسعاً مع أحزاب أخرى وشخصيات من مستقلين وتغييريين.

وتذكّر الأوساط السياسية العليمة بكواليس الملف الرئاسي ببُعديْه الداخلي والخارجي بأن هذه الدينامية وخلال أقلّ من شهر أفضت الى قيام منافسة متكافئة وحتى متفوّقة، وفق نتائج جلسة 14 يونيو، على المرشح الذي يدعمه حزب الله وتعمل له فرنسا وطُلب من قوى خارجية عدة أن تفسح له المجال ليمرّ، وهذا أدى أيضاً إلى ارتسام مشهدية لم يعهدها لبنان منذ اتفاق الطائف لجهة قدرة البرلمان على لعب دور في الانتخابات الرئاسية، إذ كان هذا الاستحقاق يتم إما على قاعدة تسويات أو اتفاقات بين الأحزاب الكبرى في ترجمةٍ لموازين خارجية. وهذه المرة بات ليس فقط لمجلس النواب، بل لكل نائب دور وتأثير في مجريات الانتخابات الرئاسية، ومن دون الجزم بما إذا كان هذا الأمر سيستمر بحال حصلت تسوية من الخارج.

ومن «الجديد» أيضاً الذي ظهّرتْه جلسة 14 يونيو، وفق ما يتم تداوُله، أنه لم يحصل استعمال كبير للمال السياسي إلا في بعض الحالات حين كان ثمة محاولة لرفْع «سكور» فرنجية، وهو ما يجعل أن هذه الجلسة في المسار الذي أَوْصَل إليها وسياقها شكّلت مسرحاً لمجموعة سوابق. وثمة مَن يستنتج بين هذه الأوساط أنه قبل شهرين كان الكلام عن أن فرنجية لديه ما لا يقلّ عما بين 63 و65 صوتاً، وبمجرّد انعقاد جلسة سيُنتخب رئيساً، وإذ بعد كل المناورات وعملية الضغط والترهيب وتخويف بعض النواب على قاعدة أن الانتخاب لن يحصل في جلسة 14 يونيو وبالتالي لا حاجة لحرْق الجسور، ودخول الفرنسيين على الخط عبر تعيين موفد ومفاوض جديد في إشارة إلى أن جلسة الانتخاب لن تشهد دورة ثانية، رغم كل ذلك لم يتمكنوا من أن يحصدوا إلا 51 صوتاً، وبينهم 4 أو 5 لم يتجرأوا أن يقولوا إنهم انتخبوا فرنجية، بما يؤشر إلى أن الالتزام بانتخاب زعيم المردة لم يكن سياسياً في جانبٍ منه بقدر ما كان تجميع أصوات، وإلى أن ما قيل سابقاً كان أقرب الى عرض العضلات والتهويل.

المصدر : الراي الكويتية

إرسال تعليق

أحدث أقدم
يرجى الدردشة مع فريقناسوف يرد المسؤول في غضون بضع دقائق
مرحبًا ، هل هناك أي شيء يمكننا مساعدتك به؟ ...
ابدأ الدردشة ...