بهذه الطريقة وحدها تُستعاد هيبة الدولة والقضاء

 

قبل أن تقول الجهات الرسمية المعنية بالحادث المؤسف والمستنكر، الذي وقع في جرود بشري، كلمتها النهائية في ما يكون قد تجمّع لديها من معطيات موضوعية وحسّية حول الجريمة المزدوجة، والتي ذهب ضحيتها شابان في ريعان الشباب من أهالي بلدة بشري، يبقى كل كلام آخر بعيدًا كل البعد عن الحقيقة المجردّة، والتي لم تُكشف كامل خيوطها بعد، في انتظار استكمال ملف التحقيق بكل تفاصيله وملابساته وخلفياته. ولكن ما يمكن أن يُقال في هذا المجال، بعدما ودّعت بشري الشابين المغدورين بحزن كبير وبكثير من الصلاة، هو أن جميع المعنيين بهذا الحادث، الذي لا وصف له، تحّلوا بجانب كبير من الحكمة والتعقّل، ورفضوا الانجرار وراء أي فتنة يمكن أن يكون من لا يستطيب العيش الواحد بين أبناء الوطن الواحد يخطّط لها في الغرف السوداء، مع ما تعتمل قلوب هؤلاء المتآمرين من حقد أسود وأعمى. 

الجميع التقوا على كلمة سواء. أهل الفقيدين، كما سائر أهالي بشري، وكذلك أهالي الضنية عمومًا وأهالي بقاعصفرين خصوصًا، طالبوا بأن تأخذ العدالة مجراها الطبيعي والقانوني، بعيدًا عن "تسييس" هذا الحادث المؤلم. لم نسمع صوتًا واحدًا يطالب بالثأر، وهي لغة لا تبني، بل تزيد الشرخ شرخًا، في حال وجوده. المسألة لا تُعالج غرائزيًا، ولا بـ "العنتريات"، بل بأن يأخذ كل ذي حقّ حقّه الطبيعي. وهذا الأمر لا يتحقّق بالدعوات إلى "التقوقع" وفرض منطق "شريعة الغاب"، بل بالحكمة والتعقّل. وهذا ما حصل، على أن تبادر الدولة بكامل أجهزتها العسكرية والقضائية إلى كشف ملابسات الحادث، وسرد وقائعه بتجرّد وموضوعية. 
بهذه الطريقة فقط تتحقّق العدالة. وبهذه الطريقة تهدأ النفوس المضطربة. وبهذه الطريقة وحدها تخرس ألسنة السوء. وبهذه الطريق يوضع حدٌ لما يُدبر من مؤامرات لزرع بذور الشقاق والخلاف بين أبناء المنطقة الواحدة المترابطة جغرافيًا ووحدة حال منذ مئات السنين. 
وبهذه الطريقة تستعيد الدولة هيبتها، ويعود القضاء إلى لعب دوره الطبيعي لجهة الفصل بالعدل والقانون بين المتنازعين. وبهذه الطريقة يمكن أن تُستعاد الثقة بالقضاء، الذي بدأ يفقد شيئًا من هيبته وصدقيته أمام الرأي العام العالمي والمحلي. 
أمّا إذا استمرّ القضاء في دفن رأسه في رمال الأزمة اللبنانية المتحركة، وإذا لم يكشف بكل جرأة ومسؤولية وفروسية نتيجة التحقيق، وإذا استمرّ خاضعًا لبعض الاملاءات السياسية، فإن هذا القضاء يكون كمن يطلق النار على رجليه. وبهذا يُستكمل مسلسل تهاوي المؤسسات، الواحدة تلو الأخرى، مع ما يعنيه ذلك من انسداد أفق الحلّ. وسيبقى لبنان ليس من دون رئيسٍ للجمهورية فحسب، بل تصبح كلمة "جمهورية" في مهبّ الرياح الغريبة، التي تهبّ عليها من كل حدب وصوب، خصوصًا أن ما يُرسم للبنان وفلسطين من مؤامرات خارجية، وبأصابع مشتركة، سيلقى أرضًا خصبة، يصعب بعدها الحديث عن السيادة والحرية والاستقلال، لأن مضمون هذه الشعارات - المبادئ تمسي مجرد شعارات لا يمكن "صرفها" سوى في أسواق المتاجرين بمصائر الشعوب. 
فلا سيادة من دون حرية. ولا حرية من دون شعب منتفض وثائر. ولا ثورة من دون تضحيات. ولا تضحيات من دون إرادة وطنية جامعة وعابرة للطوائف والمناطق.  
من جرود بشري وبقاعصفرين يبدأ الحلّ، ويجب أن يكون شاملًا وعادلًا. في هذه المنطقة، التي دفنت الفتنة، سيترسّخ العيش الواحد بين العائلات الروحية، التي يتألف منه الوطن.

إرسال تعليق

أحدث أقدم
يرجى الدردشة مع فريقناسوف يرد المسؤول في غضون بضع دقائق
مرحبًا ، هل هناك أي شيء يمكننا مساعدتك به؟ ...
ابدأ الدردشة ...