بعد الترسيم في البحر... التطبيع في البر!

 

بعد البحر، جاء دور البر. ثمة دعوات الى البدء بترسيم برّي هي تهيئة لما يمكن أن يحدث. "بوابة فاطمة" فقدت رمزيتها، ولم تعد مكاناً لرمي الحجارة باتجاه العدو. هجرها زوّارها، وسقط الرمز. على جانبي الحدود، متنزّهون من الطرفين، الخصمين، العدوّين.

يحاول الواحد أن يُبعد التقاء النظرات مع الآخر، بل يتحفّز دائماً لمواجهته "السلمية" طبعاً، حتى لا نقول المسرحية. فلا رحلات ولا زيارات الى الحدود، وعلى الجانب الآخر، إسرائيليون يعيشون بأمان ويمارسون حياتهم العادية رغم كل ما يقال عن قلق وخوف.

وبعيدا من وثيقة الامم المتحدة عن اتفاق الترسيم البحري ما بين الجمهورية اللبنانية و"دولة اسرائيل"، التي نُشرت عبر الموقع الرسمي للمنظمة الدولية، والتي تنص صراحة على الاعتراف المتبادل، اذ لا اتفاق ملزما بين متخاصمَين إلا عندما يتصالحان، او يقبلان بالتزام كل منهما تجاه الآخر. وتاليا لا يمكن تبادل الرسائل، وعقد اتفاقات الهدنة، وغيرها مع "فلسطين المحتلة" بعيدا من كل هذا ثمة تطورات تشي بالتطبيع المتدرّج.

بالأمس، تجرّأ لبناني على سحب مخزن الرصاص من رشاش عسكري إسرائيلي. عمل بطولي بامتياز، وقد تفاخر به اللبنانيون جميعاً. وخرج المعلقون والمغردون ليصفوا الجيش الاسرائيلي بخيوط العنكبوت، ويهللوا لأن مواطناً لبنانياً أعزل، يمكنه أن يخلع عنه رداءه وينزع منه سلاحه، وبأن المواجهة قائمة باستمرار وهي تهدد العدو في أمنه ووجوده.

في قراءة متأنية للحدث وما يشبهه، يمكن التوقف عند الآتي:

أولاً: لا يشعر الفريقان اللبناني والإسرائيلي بأي خوف، أو بخطر التجوال عند الحدود، واقتراب أحدهما من الآخر الى حدود الملامسة. وهذا دليل هدنة تُشعِر الطرفين بالأمان، وهي هدنة تم تثبيتها مع القرار 1701 في العام 2006 وتستمر منذ ذلك الحين برضى الطرفين.

ثانياً: إن إقدام مواطن لبناني على نزع سلاح من عسكري اسرائيلي، يعني بلوغ الاحتكاك المباشر والتلاصق الجسدي في أجواء طبيعية، من دون مواجهة، أو قلق من التقاتل أو القتل. ولو لم يشعر الإسرائيلي بهذا الأمان لما اقترب، وقرّب سلاحه على هذا النحو.ثالثاً: ان رفع السلاح، من مدني أو عسكري لبناني، لإجبار إسرائيلي على عدم تخطي "الخط الأزرق"، لا يعني استعداداً لاطلاق النار، لأن لا قرار لديه أو يغطيه في ما يمكن أن يؤدي اليه اطلاق النار. بل إن جُلّ ما يحصل هو "استعراض بطولي" نتائجه محسوبة جيداً، وتقتصر على ضجيج إعلامي، وتهانئ عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

رابعاً: ان تدخل قوة الأمم المتحدة العاملة في الجنوب، عن طريق الوقوف بهدوء، بل ببلادة، ما بين المتخاصمين، واطلاق الدعوات الى التهدئة، يؤكد اطمئنان تلك القوة الى التزام الطرفين حدود "التصعيد"، ليس أكثر.

أمام هذا الواقع، يصبح التطبيع قائماً، ولو لم يعترف به الطرفان، بل ولو جاهرا بعكسه في المنازلات الخطابية الممجوجة. فالترسيم البحري لم يكن ممكناً لولا تلاقي إرادات ومصالح يمكن أن تعود لتلتقي في البر أيضاً، وهي فقط في حكم المؤجلة، لعدم كتابة الفصل الأخير من الصراع الذي يبقى ضرورة لحسابات محلية وإقليمية تقضي بترك بعض الأمور عالقة للإفادة منها في أوقات مناسبة، ولتكون ورقة تفاوض لأزمنة محددة.

غسان حجار- النهار

إرسال تعليق

أحدث أقدم
يرجى الدردشة مع فريقناسوف يرد المسؤول في غضون بضع دقائق
مرحبًا ، هل هناك أي شيء يمكننا مساعدتك به؟ ...
ابدأ الدردشة ...