لبنان والموارنة ومعمودية الدم والنار

 

لم يكن يعلم مارون هذا الناسك في العراء أنه بعد أربعين عاما على وفاته سيحمل أحد تلاميذه ابراهيم القوروشي، إلى جبل لبنان مشعل الإيمان والخدمة الإنسانية، مزودا بالفقر والعفة الى قرية أفقا الجبيلية "بين القرن الرابع والخامس" ليبشر الكنعانيين بـ الله الواحد الحي. لتنطلق به ومعه مسيرة تلامذة مارون ورفاقه، الى جماعة مارون ومنها الى كنيسة مارون والى بلد مارون ومنه الى الإنتشار الماروني في العالم أجمع. كما قال السيد المسيح "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها".

لم يسبق أن أصبح لناسك شعباً حمل إسمه من خلال كنيسة بناها أبنائها بالكلمة والفعل والإيمان. ولم يكن لهذا الشعب أن ينمو ويزهو ويستمر لولا أعجوبة سماوية لا زالت مفاعيلها قائمة حتى اليوم، ولم يكن لهذه الأعجوبة أن تستمر لولا لم تكن "المارونية" هي حبة الحنطة الجيدة في هذا الشرق والتي قال عنها السيد المسيح "إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِير" (يوحنا 24:12)
لم تعرف الجماعة المارونية يوما الهدوء والسلام حتى قال عنها الأب البروفسور ميشال حايك "أن المارونية هي ثورة مستمرة".

منذ نشأتهم عشقوا الحرية والإنفتاح والعلم والمعرفة يوم كانت الديكتاتوريات والجهل والظلم والعبودية تحكم العالم، وهذا ما أتى بهم الى جبال لبنان وأسسوا جماعاتهم على المبادىء التي عشقوها وآمنوا بها، حتى أصبحت تلك المبادئ مرادفة لتسميتهم وأصبح الغرب والشرق في القرن السابع عشر إذا أراد أن يُعرف على أحد من المثقفين يُعرف عليه بكلمة "عالِم كـ ماروني".شهدت "الموارنة" على مجازر كادت أن تقضي على جماعتها وكان أخطرها بعد الانقسام الكبير سنة 1054 يوم انفصلت الكنيسة البيزنطية عن الكنيسة في روما مما أدى إلى اضطهاد الموارنة وقتل 350 كاهناً منهم مع عدد كبير من المؤمنين حتى كاد أن ينتهي ما يعرف بجماعة مارون ومن ثم توالت المجازر التالية: يوم حكم المماليك لبنان وفتكوا في القرى الجبلية حاصداً الآلاف من الموارنة ومن الطوائف المسيحية الأخرى حيث لجأوا الى وادي قاديشا وسكنوا المغاور والصخور الذي سمي لاحقاً بفعل صلواتهم "وادي القديسين" وصولا الى تاريخنا الحديث ومجازر 1860 والحصار العثماني خلال الحرب العالمية الأولى حيث قضت المجاعة على ثلث سكان جبل لبنان.

وبالرغم من كل ما عانوه ما بين كل تلك المجازر من اضطهادات وقتل ونفي لم ييأسوا لا بل استمروا في نشر مبادئهم وحضارتهم وإنشاء كنائسهم ومدارسهم داخل المجتمعات التي يقطنونها.

أسس البطريرك يوحنا مارون سنة 685 الكنيسة المارونية وانطلقت معها النهضة المارونية وبناء المؤسسات والكنائس والأديرة والتوسع الجغرافي والتبشيري وأصبحت الكنيسة معترف بها رسمياً في الفاتيكان التي أعلنت أنه أصبح لمسيحيي الشرق قاعدة هي لبنان. أنشأوا علاقات في أوروبا من خلال الفاتيكان وفرنسا وبدأ التبادل الثقافي والتجاري وهذا كله تحت نير الاضطهادات والقتل.

في ظل السيطرة العثمانية وبحسب مزاجية الحاكم وبحسب حاجته الى الموارنة عرفوا مراحل هادئة ومراحل عصيبة حتى أن الدولة العثمانية كانت توكلهم أحيانًا بمهام دبلوماسية الى جانب مهام أخرى بين لبنان وأوروبا وهنا بدأ الموارنة بوضع تصور عن كيفية التواصل مع الأوروبيين في المساعدة للحصول على بلد ذي سيادة كاملة إسمه لبنان عوضاً عن مقاطعات متفرقة ليست سوى ممراً ومقراً لكل الغزوات والاحتلالات.سنة 1584 بداية النهضة العلمية أسسوا المدرسة المارونية في روما التي ساعدت في إرسال الإرساليات إلى لبنان التي غنت شعبه بالعلم والثقافة والتطور الحضاري وفي سنة 1585 أسسوا أول مطبعة في الشرق العربي في دير مار أنطونيوس، وفي الـ 1736 وفي المجمع اللبناني للموارنة أصدروا قراراً بالزامية التعليم المجاني لكل ماروني وبفتح مدارس مجانية في القرى والكنائس والذي تطور لاحقاً الى بناء المدارس الكبرى والجامعات والمستشفيات حتى أصبحوا من رواد العلم والفكر وكان لهم المساهمة الكبرى في عصر النهضة العربية في أواخر القرن العشرين.

استعان كل من الأمير فخر الدين والأمير بشير الشهابي بالموارنة للعمل في زراعة دود القز وتسويقها الى أوروبا كما أعطوهم مراكز سياسية وإدارية هامة واسند اليهم مهام عديدة وكان أهمها إسناده العلاقات الخارجية مع كل باقي الدول وفي تلك المرحلة بدأت تتبلور صورة لبنان بشكله الحالي ككيان مستقل. فبعد فشل نظام القائمقاميتين عمل الموارنة مع الأوروبيين على إنشاء نظام المتصرفية في لبنان أي تحديداً جبل لبنان (وهكذا كانت تسميته والذي استمر إلى سنة 1918) فرضوا على العثمانيين أن يكون المتصرف على جبل لبنان مسيحياً فكان لهم ما أرادوا وعينوا العثمانيين داوود باشا من الطائفة الأرمنية.

وفي مؤتمر فرساي استطاع الموارنة وبعد اجتماعات شاقة وعلى رأسهم البطريرك الحويك من إقناع المجتمعين بضم الشمال والبقاع وبيروت الى لبنان والتي طالب بها الأمير فيصل بن الحسين لتوسيع مملكة سوريا العربية.
نال لبنان ما أراد سنة 1920 ونال بعد ذلك استقلاله سنة 1943 وأعطي الموارنة رئاسة الجمهورية التي استحقونها عن جدارة ودفعوا ثمنها شهداء ودم ودموع وابادات جماعية كي يبقى المكان الذي اسسوه وأسسها. ليس من باب الشفقة بل بمعرفة من يريد أن يعرف أن لولا الموارنة لم يكن ليكون لبنان اليوم، وما إن نال استقلاله حتى بدأت الصراعات على رئاسة الجمهورية وعلى المسيحيين بشكل عام والموارنة بشكل خاص ونعتها بأبشع الصفات من كل حدب وصوب حتى حاول البعض تهجير المسيحيين من لبنان الذي أنشأه، حروب من الداخل والخارج اسلامية - مسيحية الى مسيحية - درزية والى إسلامية - إسلامية و مارونية - مارونية ولكن بالرغم من الخلافات الداخلية الغير مستجدة على المجتمع المسيحي الذي هو مجتمع تعددي وصاحب فكر حر، انما أنانية بعض من تبوؤا مناصب سياسية وحب المال والسلطة قاد الجماعة المسيحية والمارونية الى الكثير من الصراعات والتي لم نزل متأثرين بها…عرفت الجماعة المسيحية مشاكل وصراعات فيما بينها ومنذ أيامها الأولى ورسائل بولس الرسول الموجهة إلى أهل كورنثوس شاهدة على ذلك وقد توجه لهم في إحداها قائلاً: "أطلب إليكم أيها الإخوة، بإسم ربنا يسوع المسيح، أن تقولوا جميعكم قوًلا واحدًا، ولا يكون بينكم انشقاقات، بل كونوا كاملين في فكر واحد ورأي واحد"
لم تزل "الموارنة" تعاني ما عانته منذ بدايتها الى أن كنيستها لم تزل تعيش وتخلق قديسين وشربل قديس لبنان أكبر دليل على ذلك وقد أصبح قديس العالم أجمع، بفعل الأعاجيب السماوية.
لبنان والموارنة واحد، أعجوبة تتجدد في كل يوم ومهما سيواجه الموارنة لن يمر عذاب أكثر مما مر على اجدادهم وصمدوا بإيمانهم وبالقوة الإلهية العجائبية من خلال قديسي لبنان وشهداء وادي قنوبين وشهداء لبنان الأبرار الذين دفعوا أرواحهم فداءً له و كما كان منذ الأزل سيبقى الى الأبد وأبواب الجحيم لن تقوى عليه.

إرسال تعليق

أحدث أقدم
يرجى الدردشة مع فريقناسوف يرد المسؤول في غضون بضع دقائق
مرحبًا ، هل هناك أي شيء يمكننا مساعدتك به؟ ...
ابدأ الدردشة ...