تسديد القروض الممنوحة بالدولار: استنساب قانوني أم تمييز؟

 

لم تكن الودائع العالقة في المصارف، صغيرة كانت أو كبيرة، وفقدان السيولة، هي الهاجس الوحيد الذي أقلق وأربك حياة اللبنانيين بعد 17 تشرين 2019، إذ انضم الى أصحاب هذه الودائع، مودعون آخرون، من اللبنانيين المدينين للمصارف بقروض، حصلوا عليها بالدولار الأميركي قبل 17 تشرين، على السعر الرسمي وقتئذٍ (1507.5).

لم يكن أحد من هؤلاء المدينين، ومعهم المصارف فترتئذ، يتوقع تدهور سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار الاميركي، بالشكل الدراماتيكي الذي آل إليه سعر الصرف. في حينه لم تكن لدى غالبية المقترضين حرية اختيار عملة الاقتراض، لأسباب تتعلق بسياسة التسليف التي كانت تعتمدها المصارف من جهة، ووجهة استعمال القروض من جهة أخرى، بل كان جل مبتغاهم، الحصول على هذه القروض، دون التنبه الى المخاطر المحتملة مستقبلاً، للاستدانة بالعملة الاجنبية.

ولكن، مع دخول قرار رفع سعر الصرف الرسمي للدولار إلى 15000 ليرة حيّز التنفيذ، تغيّرت المعاملات والقواعد المحاسبية وآليات الدفع والسداد كافة. فيما لن يطرأ أي تغيير أو تعديل على تسديد أقساط القروض المبرمة بالليرة اللبنانية، فإن سداد القروض الممنوحة بالدولار سيتم على أساس سعر الصرف الجديد، أي 15000 ليرة، باستثناء القروض الدولارية لغير المقيمين، والقروض التجارية والاستثمارية، فإن سدادها سيتم بالدولار الفريش، حسب قرار سابق لمصرف لبنان.والمعلوم أن مجموع التسليفات انخفض بقيمة 34.1 مليار دولار، وتالياً قلصت المصارف مديونيتها الى حد كبير منذ بداية الأزمة بحيث انخفضت محفظة تسليفاتها من 54.2 مليار دولار الى 20.1 مليار دولار، أي بما يعادل 62.9%. ويشكل سداد القروض 80% من تقلص الودائع في السنوات الثلاث المنصرمة. وقد تراجعت التسليفات بالنقد الأجنبي بقيمة 28 مليار دولار بينما تراجعت التسليفات بالليرة اللبنانية بما يعادل 9.3 تريليونات ليرة في السنوات الثلاث الاخيرة. ومن جراء ذلك، تراجعت نسبة دولرة التسليفات من 70.4% في تشرين الأول 2019 الى 50.7% في كانون الاول 2022.

أما مجموع القروض قيد التسديد فيبلغ نحو 21 ملياراً و300 مليون دولار، وهي قروض ممنوحة للأفراد والشركات على السواء، وتنقسم ما بين قروض بالليرة اللبنانية، وأخرى بالدولار، بحيث تبلغ حصة الأخيرة 11 ملياراً و800 مليون دولار منها، وهي تشكل مجموع محفظة التسليفات للقطاع الخاص بالدولار.

ولكن ماذا يقول القانون اللبناني عن القروض الممنوحة بالدولار الاميركي؟ وهل من المنصف تسعير القروض على سعر 15 ألف ليرة للمقترضين والمصارف على سواء؟

المتخصص في القروض والديون المتعثرة أحمد محمد قاسم، يلفت الى أن قانون الموجبات والعقود اللبناني في المادة 754 الصادر بتاريخ 9-3-1932، عرف عقد قرض الاستهلاك بأنه "عقد بمقتضاه يسلم أحد الفرقين الى الفريق الآخر نقوداً أو غيرها من المثليات بشرط أن يردّ إليه المقترض في الأجل المتفق عليه مقداراً يماثله نوعاً وصفة".

في البدء لا بد من الاشارة الى أن مهمة تنظيم عمل المصارف في لبنان أسندت الى مصرف لبنان بالتعاون مع جمعية المصارف بموجب المادة 174 من قانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي التي تنصّ على أن "للمصرف المركزي صلاحية إعطاء التوصيات واستخدام الوسائل التي من شأنها أن تؤمن تسيير عمل مصرفي سليم، يمكن أن تكون هذه التوصيات والوسائل شاملة أو فردية. وللمصرف المركزي بعد استطلاع رأي جمعية مصارف لبنان أن يضع التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها. كما أن له أن يحدد ويعدل كلما رأى ذلك ضرورياً قواعد تسيير العمل التي على المصارف أن تتقيّد بها حفاظاً على حالة سيولتها وملاءتها".وفي التفاصيل التي يشير إليها قاسم، فإن التعميم رقم 568 الصادر عن مصرف لبنان (تعميم وسيط رقم 568، قرار وسيط رقم 13260، عمليات التسليف والتوظيف والمساهمة والمشاركة، مصرف لبنان، 26/8/2020) والذي فرّق بين قروض التجزئة (القروض السكنية، القروض الاستهلاكية، قروض السيارات، التعليم، بطاقات الائتمان...) والتي تمسّ الشريحة الأكبر من محدودي الدخل وهم الطرف الأكثر تأثراً بهذه الأزمة وبين القروض التجارية التي أبقى فيها على قاعدة العقد شريعة المتعاقدين، كذلك فإنه فرّق بين المقيمين وغير المقيمين الذين يحصلون على مدخول عالٍ بالدولار، حيث أبقى على دفعاتهم بالدولار، إذ نصت المادة الاولى من التعميم أعلاه على الآتي: "على المصارف والمؤسسات المالية العاملة في لبنان قبول تسديد العملاء الأقساط أو الدفعات المستحقة الناتجة عن قروض التجزئة كافة موضوع هذه المادة، بما فيها القروض الشخصية، وذلك بالليرة اللبنانية وعلى أساس السعر المحدّد في تعاملات مصرف لبنان مع المصارف (1507.5 ليرات لبنانية للدولار الواحد) وذلك بشرط "أن لا يكون العميل من غير المقيمين" وفقاً للتعريف الوارد في النصوص التنظيمية الصادرة عن مصرف لبنان، وألا يكون للعميل حساب بهذه العملة الأجنبية لدى المصرف المعني يمكن استعماله لتسديد هذه الأقساط والدفعات.

تبقى سائر التسهيلات والقروض ولا سيما التجارية منها خاضعة لشروط عقد القرض أو عقد التسهيلات الموقع بين المصرف أو المؤسسة المالية والعميل ولا سيما لجهة الالتزام بالتسديد بعملة القرض".أما الاجتهاد اللبناني فهو منقسم بين مؤيد ومعارض في ظل رفض غالبية المصارف تطبيق مضمون هذا التعميم، ولجوء المقترضين الى العرض والإيداع لدى كاتب العدل، على أساس السعر الرسمي (1507.5)، ووفق قاسم فإن "الإيداع الفعلي للقروض المستحقة بالدولار الاميركي، أما القروض غير المستحقة فالاجتهاد متفق على عدم جواز تسديدها قبل مواعيد استحقاقها. وفي قرار صادر عن رئيس دائرة التنفيذ في بيروت القاضي فيصل مكي بتاريخ 28/10/2020، رد العرض والإيداع وكلف الجهة المعترضة مراجعة محكمة الموضوع خلال مهلة عشرين يوماً من تاريخ تبلغها هذا القرار للبت بمعدل سعر صرف الدولار الواجب اعتماده، لأن احتساب سعر الدولار يتعلق بأساس النزاع لكونه يطال أصل الحق وكيفية احتسابه ويؤثر على مقدار الموجب، وأي وجهة سيتم تبنّيها في احتساب سعر الصرف من شأنها أن تغيّر في مقدار الدين زيادة أو نقصاناً، الأمر المحظور على رئيس دائرة التنفيذ التصدي له، وهذا العرض والإيداع تناولته المادة 822 والمادة 823 من قانون أصول المحاكمات المدنية".

إزاء هذا التضارب، يبقى السؤال: من يحدّد سعر العملة الوطنية؟ يوضح قاسم أن "المادة 229 من قانون النقد والتسليف تنص على الآتي "ريثما يحدد بالذهب سعر جديد لليرة اللبنانية بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وريثما يثبت هذا السعر بموجب قانون وفقاً للمادة الثانية "يتخذ وزير المالية الإجراءات الانتقالية التالية التي تدخل حيز التنفيذ بالتواريخ التي سيحدّدها..."، وتالياً النص صريح على أن تحديد سعر صرف الليرة اللبنانية يجب أن يصدر بقانون لا ضمن صلاحيات المصرف المركزي الذي أنيطت به مهمة تسيير عمل المصارف".ويختم بالقول "من هنا وفي ظل الوضع الذي نمر به لناحية التضارب في الآراء حول مصير هذه القروض والتي تمس شريحة مهمة من الشعب اللبناني، لا بدّ لنا من أن ننتظر صدور قانون يعالج أوضاع هؤلاء لأنهم الطرف الضعيف في هذه المشكلة".

إرسال تعليق

أحدث أقدم
يرجى الدردشة مع فريقناسوف يرد المسؤول في غضون بضع دقائق
مرحبًا ، هل هناك أي شيء يمكننا مساعدتك به؟ ...
ابدأ الدردشة ...