ما بين القضاء والسياسة رابط متين

 

إختلف التعاطي مع الوفد القضائي الاوروبي وبنحو متدرج، فبعد أن جاءت ردّات الفعل الاولى معارضة ورافضة بذريعة انتهاك السيادة اللبنانية، حل الصمت والسكوت والموافقة، ولو على مضض، قبل ان تنتهي الامور إلى إثارة تساؤلات عدة، ليقين الجميع من جدّية الخطوة الحاصلة.

لكن بعض التكهنات الاعلامية، والتي مهّدت لقدوم الفريق القضائي الاوروبي لم تكن دقيقة في تحديد مهمّات عمل الفريق، فهو يركّز مهمّته التي ستنقسم الى مراحل زمنية عدة، على ملف تبييض الاموال واستخدام القنوات المالية المصرفية في لبنان لهذه الغاية، تحت ستار الانهيارات الكبيرة التي عاشها ويعيشها لبنان، والتي أدّت إلى فوضى مالية سمحت بفتح الابواب المحرّمة.

 

مصادر فرنسية مطّلعة أكّدت انّ المهمّات التي يتولاها الوفد القضائي جدّية جداً، وستصل إلى نتائج حاسمة وقرارات بمفاعيل تنفيذية. لكن ثمة أسئلة لا بدّ من طرحها في هذا الاطار، ومنها على سبيل المثال:

 

- الاموال التي سيتمّ احتجازها، هل ستبقى في المصارف الاوروبية؟ ام انّ لبنان سيسترجعها؟ وهذه الاموال ستكون كبيرة على ما يبدو.

 

- الترابط العضوي القائم بين حالتي تبييض الاموال والفساد سيدفع حكماً الفريق القضائي إلى ولوج ملف الفساد في لبنان، والذي يطاول «النخب» المالية والاقتصادية والقضائية والاعلامية، وخصوصاً السياسية. فهل «سيتوغل» الوفد القضائي في هذه السراديب المظلمة حتى النهاية؟

 

- هل سيؤدي هذا الواقع إلى التأسيس لبداية مسار جديد ليجري استثماره في اطار الاستحقاقات السياسية المهمّة والكثيرة التي ينتظرها لبنان؟

 

اللافت هنا انّ الاوساط الفرنسية تقرّ بأنّ مساراً ضاغطاً بدأ للوصول الى تفاهمات تؤدي إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال اشهر معدودة.

 

وعلى الرغم من تكتم هذه الاوساط عن إعطاء مزيد من المعلومات حول طبيعة هذا المسار الذي بدأ، وحدوده وآفاقه ومن يشمل، إلّا انّها ترجح ان تكون نهاية آذار المقبل موعداً حاسماً.

 

وتعتقد هذه الاوساط انّ هنالك اعتبارات عدة تفرض على لبنان والاطراف السياسية فيه عدم التمادي في استهلاك الوقت. وتضيف، انّ احد اهم هذه الاعتبارات يعود إلى الاحتمالات الموجودة لمخاطر ارتفاع مستوى الحماوة اقليمياً، ما سيضع لبنان عندها في مهبّ مخاطر وجودية جدّية وفعلية، نظراً إلى الدرك الذي وصلت اليه مناعته الذاتية وتراجع امكاناته إلى مستويات خطيرة.

 

وتبدي الاوساط نفسها أسفها البالغ لافتقاد الطبقة السياسية اللبنانية لأدنى مسؤولياتها الوطنية، وبحثها الدائم عن مصالحها الذاتية، وفقط مصالحها الذاتية، ولو على حساب المواطنين اللبنانيين.

 

وهي ترى انّ سياسة الاستعانة بالخارج بهدف انتزاع ضمانات شخصية لها لم تعد سياسة مقبولة او مسموح بها. فالشرق الاوسط يتغيّر والظروف باتت مختلفة، ولبنان نفسه لم يعد قادراً على الاستمرار في السياسة نفسها، بعدما انهارت مؤسساته وتبخّرت قوته الاقتصادية بسبب الذهنية القائمة لدى الطبقة السياسية.

 

وإذ تتجنّب هذه الاوساط الانزلاق في بازار التسميات، فإنّها اشارت الى انّ الرئيس المقبل للبنان في حاجة لأن يحظى بمواصفات واضحة ومشهود لها، خصوصاً في مسألة نظافة الكف ومحاربة الفساد وقدرته على لمّ الشمل واطلاق ورشة إعادة بناء مؤسسات الدولة. اضافة إلى وجوب ان يشكّل حالة انسجام مع الحكومة ورئيسها، لا الاستمرار في سياسة المناكفات، والتي تؤدي الى وقف عجلة الدولة.

 

وتردّد انّ ثمة استياء من طريقة مقاربة هذه القوى للاستحقاق الرئاسي، حيث ادّى ذلك إلى اقفال مسار الحلول.

 

ونُقل أنّ التسابق على تسويق اسماء المسترئسين بكثرة، انما ادّى الى اعطاء صورة غير رصينة حيال مقاربة هذا الاستحقاق، والى ضياع وتشويش اكثر منه تصويباً. فحتى البطريركية المارونية، هنالك من ينقل عنها كل مرة اسماء مختلفة ومتنوعة. الّا انّ الاوساط الفرنسية نفسها، تقول انّ اوروبا وعلى الرغم من الكوارث والحروب التي تشغلها، انما لديها قرار متخذ بمدّ يد المساعدة الاقتصادية للبنان، حال اجتياز حاجز الاستحقاق الرئاسي، وانّ فرنسا والمانيا على وجه الخصوص، قد وضعتا برنامجاً في هذا الاطار، ما يعني انّ لبنان سيكون مقبلاً على مرحلة اقتصادية جديدة افضل بكثير من السابق، ولكن بعد إنجاز الاستحقاق الرئاسي.

 

في الواقع، بدت اوروبا وكأنّها نجت بالحدّ الأدنى المعقول من تجاوز اول فصل للشتاء، بعد فك ارتباطها «الغازي» مع روسيا. فيما كانت التوقعات تؤشر إلى مصاعب كبيرة، لكن طقس فصل الشتاء في اوروبا، والذي جاء مقبولاً نسبياً، ساعد الاوروبيين، وخصوصاً المانيا، على تجاوز هذا الاختبار بأقل الاكلاف. أضف الى ذلك، انّ خطة التقنين والتقشف التي فُرضت وإيجاد مصادر بديلة للغاز، كل ذلك سمح باجتياز المرحلة بأقل نسبة من الاضرار. تكفي الاشارة مثلاً، الى انّ خزانات الغاز في المانيا لا تزال ممتلئة بنسبة 92%. وهذا ما سيسمح لأوروبا بإيلاء الاقتصاد اللبناني بعض الاهتمام، ولكن فور إنجاز الاستحقاق الرئاسي المنتظر.

 

وإذا صدقت هذه الاوساط الفرنسية، فإنّ ثمة مرحلة صعبة فاصلة تمتد لأشهر معدودة، خصوصاً انّ الخناق الاقتصادي يشتد اكثر حول رقاب اللبنانيين، مع حال استياء تتصاعد أكثر لديهم، وهذا ما تبيّنه الارقام.

 

ففي استطلاع نشره «معهد واشنطن للدراسات» شمل 1000 لبناني ونسبه المعهد إلى شركة وصفها بـ»العالمية والمستقلة»، أظهرت نسبة 91% من اللبنانيين معارضتها لعدم حصول احتجاجات شعبية ضدّ السلطة. وهذا ما يدحض الاعتقاد السائد بأنّ التحركات الشعبية لم تعد تجد لها قبولاً لدى الناس، خصوصا انّ الانهيار المالي مستمر.

 

ووفق الاستطلاع نفسه، والذي جرى في تشرين الثاني الماضي، فإنّ 97% اعتبروا انّ الدولة اللبنانية تبذل القليل جداً لمعالجة ثلاثة مخاوف لدى اللبنانيين وهي: الحدّ من الفساد، تلبية احتياجات الشعب من اجل تأمين ظروف حياة كريمة، والتخفيف من أعباء الضرائب والموجبات الاخرى بصورة عادلة.

 

كذلك، فإنّ 91% يعتبرون أنّ الحكومة لا تبذل جهداً يُذكر للأخذ بآراء المواطنين بعين الاهتمام.

 

اما في الملفات السياسية، فإنّ 61% اعتبروا أنّ الترسيم البحري سيرخي بآثار ايجابية إلى حدّ ما على المنطقة.

 

لكن 91% عارضوا السماح بإقامة علاقات تجارية او رياضية مع اسرائيليين، هذا في الوقت الذي لم تصل النسبة إلى النصف حول هذا السؤال لدى السعوديين والاماراتيين.

85% من اللبنانيين اعتبروا أنّ «اتفاقيات ابراهيم» خلقت اثراً سلبياً على المنطقة.

 

وهذه النتائج تعطي الدليل إلى أنّ الشارع اللبناني يرفض أي تسوية سلمية مع اسرائيل، بخلاف ما حصل إثر «اتفاقيات ابراهيم».

 

اما في العلاقات مع الدول الكبرى، فإنّ 72% أيّدوا العلاقة الجيدة مع الصين، اي بتقدّم على ما كان سُجّل في استطلاع آذار الماضي 68%.

 

كذلك فإنّ 58% ايّدوا العلاقة الجيدة مع روسيا، أي بارتفاع اربع نقاط عن استطلاع آذار الماضي. لكن ما سجّل هنا هو بأنّ الشريحة الاكثر حماسة للعلاقة مع روسيا هي الشريحة الشيعية مع 83% ثم 46% عند السنّة و49% عند المسيحيين والدروز.

 

هذا على الرغم من اعتبار 77% من اللبنانيين أنّ الحرب الروسية على اوكرانيا تعتبر سلبية على المنطقة.

 

أما العلاقة مع الولايات المتحدة الاميركية فهي سجّلت تطوراً ولو انّها بقيت أدنى من نسبة العلاقة مع روسيا والصين. ففي استطلاع العام 2017 وصولًا الى تشرين الثاني 2020، حازت واشنطن على نسبة 31% فقط. اما في الاستطلاع الحالي فحازت العلاقة مع واشنطن على 41%، وحصل هذا التطور في المزاج خصوصاً لدى الشريحة الشيعية، والتي انتقلت من نسبة 7% الى 23%.

 

ويعزو الخبراء السبب للانهيار الاقتصادي الحاصل، والشعور بالحاجة لعلاقات اقوى مع الولايات المتحدة الاميركية.

 

اما على مستوى العلاقة مع ايران، فبقيت مستقرة بين مختلف الاستطلاعات على نسبة 44%، لكن مع اختلاف بين الشرائح الطائفية، ففيما ايّد 83% من الشيعة هذه العلاقة، تراوحت لدى السنّة والمسيحيين والدروز ما بين 20% الى 39%.

 

في المحصلة، فإنّ كل هذه الارقام تؤشر إلى أنّ اللبنانيين لم يهدأوا بعد، لا بل على العكس.

إرسال تعليق

أحدث أقدم
يرجى الدردشة مع فريقناسوف يرد المسؤول في غضون بضع دقائق
مرحبًا ، هل هناك أي شيء يمكننا مساعدتك به؟ ...
ابدأ الدردشة ...