الأفكار وليس الأشخاص سنسيناتوس او ماكرون


 منذ انتخابه رئيساً لفرنسا لولاية ثانية، يشعر ايمانويل ماكرون بالانزعاج لعدم قدرته على الترشح لولاية ثالثة في 2027، وذلك تطبيقاً للتعديل الدستوري الذي أُقرّ في 2008 ويمنع على الرئيس الترشح لأكثر من ولايتين متتاليتين.

هذا يعيدنا إلى التفكير بمفهوم الحكم وامتهان السياسة التي تتحول تمجيداً للشخص وحصر أي انجازات بشخص وليس بأفكاره العامة، وكأنّ السلطة ليست استمرارية ومرتكزة على برامج واضحة يكون الشخص في سدّة الحكم مسؤولاً على تنفيذها والإشراف عليها.

 

هذا المفهوم نفسه الذي دمّر العمل السياسي في لبنان، حيث تحوّلت المناصب جائزة ترضية وليس خدمة عامة يؤديها الشخص لفترة معينة، خدمة لمجتمعه، يعود بعدها إلى متابعة حياته ووظيفته التي كان يمتهنها قبل اعتلاء المنصب.بل أصبح انتهاء فترة المنصب هو عقاب سياسي وتقاعد مبكر، وبات يُعتقد انّ انتهاء منصب أحد هو كارثة ستؤثر على الدولة او المجتمع، وهذا خطأ مميت لأنّ السلطة يجب ان تكون مرتكزة على برامج او افكار لكل حزب او مجموعة سياسية، ولا تتأثر بذهاب شخص او انتهاء ولايته. وهذه الافكار تمثل إرادة الشعب ورغبته بطريقة إدارة الحكم، غير ذلك يتحول أي منصب وسيلة للمنفعة الشخصية والابتزاز.

 

وأي دولة يوجد فيها شخص لا يُمكن استبداله بعدد من البدلاء القادرين، لا تستحق الحياة. (لقد تمّ إقناعنا عبر السنوات انّه إذا تمّ تغيير حاكم مصرف لبنان المركزي سيصل الدولار إلى 10 آلاف ليرة، ويبدو اننا نجحنا بذلك فالدولار ليس بـ10 آلاف بل بـ40 الفاً).

 

في الجمهورية الرومانية، كان هناك قانون يفرض حدًا لمدة ولاية واحدة على مناصب: القناصل - القضاة ـ السيناتور، تتراوح بين سنة إلى ثلاث سنوات، كما مُنع إعادة انتخابهم حتى مرور عدد من السنوات. واعتبر المؤرخ غاريت فاجان، انّ الحكم في الجمهورية الرومانية كان قائمًا على «فترة محدودة من المنصب» والتي تضمن «تداول السلطة في شكل متكرّر»، مما يساعد في منع الفساد. من المزايا الإضافية لتداول السلطة هو جلب السياسيين «الأكثر خبرة» إلى المستويات العليا. اي انّ عددًا اكبر من ذوي الخبرات سيتمكنون من التناوب على الحكم.واود ان اشير إلى شخصية تحولت رمزاً للخدمة والفضيلة المدنية، وهو لوشيوس كوينكتيوس سنسيناتوس (Lucius Quinctius Cincinnatus) كان أرستقراطيًا رومانيًا ورجل دولة وقائدًا عسكريًا. وعلى رغم من شيخوخته، عمل في مزرعته الصغيرة حتى دفع الغزو مجلس الشيوخ الى دعوته لترؤس منصب ديكتاتور. ترك أرضه وتولّى السيطرة الكاملة على الدولة، ولكن بعد تحقيق انتصار سريع، تخلّى عن سلطته وامتيازاته وعاد إلى مزرعته بعد 15 يوماً من تعيينه ديكتاتورًا. ويُشار إلى نجاحه واستقالته الفورية من سلطته شبه المطلقة مع نهاية هذه الأزمة (التي يرجع تاريخها تقليديًا إلى 458 قبل الميلاد) كمثال على القيادة المتميزة، والخدمة من أجل الخير الأكبر، والفضيلة المدنية، والتواضع. وكانت عبارته الشهيرة بعد ان عُرف بتعيينه ديكتاتورًا: «إذاً، سيتمّ تدمير محصول هذا العام أيضًا، بسبب واجباتي الرسمية، وسوف نتعرّض جميعًا للجوع بشكل مخيف».

 

نأسف لاختفاء هذه القيم من عالمنا اليوم، لقد تقدّمنا علميًا ولكننا فقدنا قيمًا اخلاقية اساسية تتعلق بالنزاهة والخدمة والخير العام.

 

الأهم انّ أية سلطة او منصب غير مرتبطة بالشفافية المطلقة، والتي تتيح للشعب الإشراف على قرارات السلطة ومن يمارسها، ستكون عرضة للانحرافات والأخطاء، لأنّها ستكون قرارات لا تخضع للتحليل والتدقيق.

إرسال تعليق

أحدث أقدم
يرجى الدردشة مع فريقناسوف يرد المسؤول في غضون بضع دقائق
مرحبًا ، هل هناك أي شيء يمكننا مساعدتك به؟ ...
ابدأ الدردشة ...