جاء في الاخبار:
لم تكن احتجاجات خريف 2019 هي ضربة البداية في الأزمة. سبقتها على مدى أشهر عدّة، قيود غير مرئية مارستها المصارف على الزبائن بحجج مختلفة منها إغراء ومنها ترهيب. إغراء بفوائد مرتفعة لمنع سحب الوديعة، وترهيب بصعوبة التحويل (بعض المصارف استعملت مسائل لها علاقة بتبييض الأموال لمنع تحويل ودائع الزبائن إلى الخارج). ففي تلك الفترة، بدأت التوترات والمشادات تظهر علناً بين المودعين والمصارف، إنما لم تصل إلى مرحلة الدعاوى القضائية، ولم يتحوّل الأمر إلى مشهد عنيف إلا بعد الإقفال الذي نفّذته المصارف في 21 تشرين الأول 2019. كانت خطوة بمثابة إعلان التوقف عن السداد الذي قامت به المصارف بشكل مبطّن في الأشهر السابقة.
مذاك الوقت، اختارت نقابة موظفي المصارف التموضع إلى جانب أصحاب رأس المال. لم تتصرّف باعتبارها نقابة عمالية، إذ أعلن اتحاد نقابات موظفي المصارف، في بيان، تضامنه مع جمعية المصارف، وأيّد قرارها بالإضراب. وفي 10 تشرين الثاني 2019، قرّرت النقابة أن تتصرّف نيابة عن أصحاب المصارف، فأعلنت الإضراب المفتوح احتجاجاً على ما وصفته بـ«مضايقات» يتعرّض لها الموظفون من قبل العملاء كلما أرادت المصارف الإقفال للضغط على جهة ما، تصرّف اتحاد نقابات الموظفين مبرّراً الأمر بذريعة خوف الموظفين.
ولو أن النقابة «أخذت قراراً معاكساً، ربما لم يكن الإضراب قد حصل. أقلّه كانت الذريعة المباشرة قد سحبت» يقول الخبير النقابي غسان صليبي. فبإضرابها أسهمت المصارف في خلق، وفي مضاعفة، نوبات الهلع لدى المودعين وفي الاقتصاد اللبناني ككل، ضاربة عامل «الأمان» وهو أساس علاقتها مع العملاء. عملياً، قرّرت المصارف تأديب الناس الذين كانوا يهابونها طيلة 26 عاماً. وبات الشعور بأن اتحاد نقابات موظفي المصارف هو نقابة جمعية المصارف، ما يثير تساؤل صليبي: «هل انفصال الموظفين إلى هذا الحد عن الناس أحد أسبابه أن حقوقهم كمودعين مؤمّنة؟ هل مهمة اتحاد موظفي المصارف غير معني بمعيشة الناس المسروقة أموالهم؟».
فقدان الثقة بالمصارف تصاعد بمرور الوقت. عبّر المنتفضون عن ذلك في ليلة المصارف الشهيرة، وما سبقها وما تلاها من احتجاجات أمام المصارف، ولم يتوقفوا لحظة عن طلب استرداد ودائعهم سواء برفع الدعاوى، أو لاحقاً باقتحامات المصارف. وبعنجهية معتادة قرّرت المصارف إعلان الإضراب تلو الآخر. وصل الأمر بها في آذار الماضي إلى الإقفال تحدياً للقضاء، على خلفية إصدار القاضية غادة عون سلسلة من الأحكام القاضية بحجز أموال للمصارف التي تمتنع عن تسليم الودائع. كان الأمر بمثابة ابتزاز للقضاء وللمودعين بهدف التفلّت من المساءلة وطلب الحماية في آن. لكن تجرؤ المصارف على هذه الإضرابات المتتالية، لم يكن مدعوماً فقط ببيانات اتحاد نقابات موظفي المصارف. بل كان أيضاً يحمل في مضمونه دفعاً سياسياً - قضائياً حمائياً لها منذ اليوم الأول للأزمة؛ فمع قمع الانتفاضة، انتقلت المواجهة بين المودعين والمصارف، نحو خيار اقتحام المصارف واسترداد الودائع بالقوّة. كانت موجات فردية متباعدة، إلى أن جاء بسام الشيخ حسين ليفتتح موجة جديدة وصلت إلى حدّ اقتحام ثمانية فروع في يومٍ واحد. الردّ من المصارف كان متوقعاً: هناك من يحرّك هؤلاء للضغط على المصارف لتوافق على «شيء ما». هكذا برّرت المصارف تنفيذ إضراب لثلاثة أيام ينتهي اليوم.
يأتي ذلك، رغم أن هناك آلاف الدعاوى ضدّ المصارف لاسترداد الودائع، عالقة أمام القضاء منذ بداية الأزمة.
بهذه القوّة الدافعة، تجرأت المصارف على الإضراب وقد تكرّر الأمر مجدداً.