لكن اللافت في ما كشفه معلق الشؤون الأمنية رونين بيرغمان، أول من أمس، في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، من وثائق ومعطيات، هو المساعي التي بذلها كبار قادة العدو والكتائب في نسج روايات مختلقة لطمس الجريمة، والتي وصلت إلى حد اقتراح أن الشهداء قتلوا بعضهم بعضاً، وأن الجريمة كانت مجرد حالة غضب أو فقدان السيطرة، في مؤشر إلى المدى الذي يمكن أن يبلغه العدو وعملاؤه في اختلاق الأكاذيب، حتى عندما يتعلق الأمر بحدث بهذا الحجم، وهوية المجرمين فيه واضحة.
في كل عام تحل فيه ذكرى «الحرب الأولى»، في مثل هذه الأيام، يجري التداول في وقائع تلك الحرب. وليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها تناول مجازر صبرا وشاتيلا في الإعلام الإسرائيلي. إلا أن هناك أهمية خاصة للاطلاع على ما جرى في الغرف المغلقة في الجانب الإسرائيلي وعملائه، وعلى الأفكار التي طُرحت لاحتواء مفاعيل المجزرة.
من أبرز الحقائق التي ينبغي أن تبقى حاضرة في الوجدان أن مجزرة صبرا وشاتيلا لم تكن مجرد رد فعل على مقتل الرئيس بشير الجميل، وإنما أيضاً ترجمة لقرار مدروس يهدف إلى كي وعي الشعبين الفلسطيني واللبناني، وهو ما كانت تتطلبه مخططات مرحلة الاحتلال الإسرائيلي، أولاً من أجل ضمان احتلال آمن، وثانياً لتعميق الشعور بالهزيمة وتحويلها إلى هزيمة نفسية تُمهِّد الأجواء لفرض وصياغة ترتيب سياسي وأمني وفق ما هو مخطط أميركياً وإسرائيلياً.ومن المعطيات الجديدة ما تناوله تقرير بيرغمان عن خطط بين رئيس أركان الجيش، رفائيل إيتان، وحزب الكتائب لاحتلال بيروت بعملية عسكرية مشتركة أطلق عليها تسمية «الشرار»، وحديث شارون في 11 تموز 1982، عن أنه «ينبغي القضاء على القسم الجنوبي (من بيروت الذي توجد فيه المخيمات الفلسطينية ومقاتلو منظمة التحرير). يجب القضاء على كل ما بالإمكان القضاء عليه، وتدميره من أساسه». وهو ما يؤكد أن العدو حوَّل مقتل بشير الجميل إلى ذريعة لتنفيذ خطط جارور جاهزة، فحصل شارون، بحسب التقرير، على مصادقة بيغن لاحتلال بيروت، لكن الحكومة الإسرائيلية أُبلغت بذلك بعد احتلال العاصمة اللبنانية.
وفي السياق نفسه، يكشف رئيس الموساد في ذلك الحين، ناحوم أدموني، الحالة التي انحدر إليها بيغن على وقع الخسائر البشرية المتراكمة في صفوف جنود العدو «كنت أبدأ بالتقرير وأرى أن عينيه مغلقتان، ولا أعرف ما إذا كان يسمع ما أقوله له ، أو لا. هل هو نائم؟ هل هو مستيقظ. كان وضعاً محرجاً للغاية. والجميع يعلم أن الأمر كان كذلك لكن تم إخفاء الأمر عن الجمهور الإسرائيلي». وفي الاتجاه نفسه أتى كلام سكرتير الحكومة خلال اجتياح عام 1982، دان مريدور، «لقد رأيت بيغن منطوياً على نفسه، يتألم من الحرب التي وصفها بأنها كانت مأساة...».
وهكذا تحولت الحرب التي خاضتها إسرائيل، بحسب توصيف بيرغمان، للمرة الأولى بتفوقٍ كمّي ونوعي ملحوظ، واستعد لها طويلاً الجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات، وحظيت في البداية بشرعية جماهيرية واسعة جداً، إلى واحدة من أخطر كوارث إسرائيل. وبالفعل غيرت الشرق الأوسط، لكن ليس في الاتجاه الذي خططت له إسرائيل. ويختم بيرغمان، ساخراً، من الحرب التي كان نجاحها فوق المتصور، بحسب تعبيره: «لقد أسسوا في لبنان الذراع الطويلة لإيران ونشر الثورة الإسلامية، حزب الله. فيما تحوَّل أرزّ القرويين، الذي أُمطر على قوات الجيش الإسرائيلي عندما دخلت إلى لبنان، إلى مطرٍ من نيران قنابل يدوية وعبواتٍ جانبية». وينقل عن نائب رئيس الوزراء خلال الحرب، سيمحا آرليخ، تبريره لهزيمتها في لبنان، بالقول: «لم يخبرونا أن هناك هذا العدد الكبير من الشيعة!».
نص محضر 19 أيلول 1982 عن مجزرة صبرا وشاتيلا
«في 19 أيلول 1982، في الساعة 12:00 ظهراً، وصل رئيس الأركان رفائيل إيتان وقائد المنطقة الشمالية أمير دروري ونائب رئيس الموساد ورئيس شعبة «تيفِل»، المسؤولة عن العلاقات الخارجية للموساد، مناحِم نافوت، برفقة حاشية والكثير من المرافقين، إلى اجتماعٍ سري في قلب بيروت مع قادة الكتائب (اللبنانية). إيتان، بحسب أحد المشاركين في الاجتماع، كان غاضباً جداً.
كان لديه سبب الاجتماع عُقد بعد يومين على المجزرة الرهيبة التي ارتكبها عناصر الكتائب بحق سكان مخيمي صبرا وشاتيلا انتقاماً من اغتيال زعيمهم، الرئيس اللبناني المنتخَب بشير الجمّيل، على يد الاستخبارات السورية، قبل ذلك بخمسة أيام. العالم ثار في أعقاب مشاهد مئات الجثث الممزقة، بينها نساء وأطفال، واتّهم إسرائيل. إيتان ونافوت فهما أن خطتهما أصبحت حرجاً كبيراً ووصمة على دولة إسرائيل سيكون من الصعب التخلص منها.
بعبارة أخرى، رغم أن دروري يعلم جيداً أن الكتائب هي التي ارتكبت المجزرة، فإنه يقترح رواية كاذبة، على الأقل بنسبة جزءٍ من القتلى إلى حروبٍ داخلية بين سكان المخيمين. وهكذا استمر الاجتماع: نافوت، الذي دعم بحماسة ضم الكتائب إلى القتال مع الجيش الإسرائيلي (ثم تنكّر بعدها لكل شيء)، اعتمد هذه المرة نبرة تهديدات: «(الكتائب) عليهم أن يوضحوا أن ما حدث شاذ، وأن هذا حدث بعد قتل بشير. أعتقد أن هذا ما هو صحيح ولا يمكن أن نقاتل نحن (لأجلكم) في هذا الموضوع لأنه إذا كنا نحن فقط من سنضطر للشرح، سنشرح ما نريد».
جوزف أبو خليل، أحد قادة الكتائب ردّ بغضب: «في الحقيقة ما تريدونه أنتم هو أن نأخذ الموضوع على عاتقنا وفي الوضع السياسي الحالي من غير الممكن...».
إيتان: «ما الذي تقترحه؟».
أبو خليل: «لا تتهمونا. وجّهوا وسائل إعلامكم... عدم إلقاء المسؤولية على الكتائب، على الأقل في الأيام القريبة، من أجل كسب وقتٍ سياسي».
إيتان: «الحقيقة هي أن الجميع يعلمون أنها كانت الكتائب، ويجب التوضيح أن هذا ليس سياسة وما حدث كان خارج السيطرة، ولذلك، في اللحظة التي علموا فيها ما الذي يحدث أوقفوا الموضوع... وسائل إعلامنا حرة ويمكنها أن تقول ما تشاء».
مرة أخرى يحاول إيتان أن يقترح تفسيراً كاذباً على الكتائب: «أوضِحوا أن هذا ليس سياستكم. ما حدث هو تفجّر غضب جنود بعد قتل بشير».
أبو خليل: «تجب معالجة هذا بصورة يومية، بصورة ضبابية، وفق ما يحدث في وسائل الإعلام. لا يمكننا الاعتراف بأن الكتائب ارتكبتها».
إيتان: «كيف تريدون أن توضحوا هذا؟».
أبو خليل: «مواصلة النفي».
إيتان: «كيف يمكن؟ إذ إن كل المخيمات تعجّ بصحافيين».
أبو خليل: «افعلوا ما تفهمونه أنتم ونحن سنفكّر كيف نرد. ولا مرة اتّهمنا إسرائيل. أمس في التلفزة اقتبسوا شخصية إسرائيلية اتّهمت الكتائب».
في هذه المرحلة ثار غضب إيتان وختم الجلسة: «أوضحنا رأينا وهم سيفكّرون وسيقررون، لكن الحقائق معروفة».
علي حيدر - الاخبار