البحث عَن نَموذَج


 لبنان بحاجة إلى رئاسَة بحجم عَذابات النّاس. التركيبة الجديدة للمجلس النيابي المنتخب حديثًا ستجعل من الصعب، على ضوء تشكُّل مكوناته من أطياف ألغت صيغة الأكثريات والأقليات المعهودة، إنتخاب رئيس من داخل المنظومة. يُنتَظَر من الرئيس المقبل أن يكون حَكماً خارج الإصطفافات التي وصمت الحياة البرلمانيَّة منذ بداية التسعينات لا ممثّلًا لأحد مكوّناتِها. 

قائد الجيش الذي قاد المؤسسة العسكريّة في أدق مرحلة في تاريخ لبنان الحديث يمتلك كل المقومات. بالطبع هذا لا يستبعد شخصيات رئاسية وازنة داخل المجلس النيابي أو خارجه إنما يبقى أنها خاضعة لتوافق صعب ومعقّد بين موزاييك أطياف المجلس من جهة وبين التسوية الدولية الإقليميّة التي طال انتظارها من جهة أخرى. قائد الجيش كان حارس النظام لا السلطَة وحارِس الثورة لا الفَوضى. يمكن أن يشكّل جسر العبور إلى دولة يتوق إليها الناس ويصبون عبرها إلى رؤية دولة القانون والمؤسسات ترى النور من جديد.


أبعدَ قائد الجيش المؤسسة عن نزق السلطة السياسية. في التعيينات أبقى على التوازن الطائفي مصانًا متماهياً مع مبدأ الكفاءة والأهلية. أفضَل مزيج بين النظام الطائفي ومبدأ المساواة. كل السلطة السياسية من دون إستثناء أرادت ملء شواغر الجيش بالمنطق نفسه التي ملأت فيه شواغر مؤسسات الدولة أي بالزبائنيَّة والولاءات الضيقة حفاظًا على هيمنتها وحصصها الصغيرة. الطبقة السياسية دمّرت الدولة فيما كان الجيش يعكس صورة الدولة الحقيقية.حافظت قيادَة الجَيش على الإرث الأميركي الداعم للمؤسسة العسكريَّة والذي بدأ مع تكوين الجيش اللبناني في أواخر الأربعينات ولم تغفل عن شبك علاقات تعاون وإحترام مع كل المكونات السياسيَّة من دون إستثناء. مع الأحزاب كانت قيادته حاسمة. الجيش خط أحمَر والمساس به طائفيًّا يحوّله إلى دكّانة للطوائف والمذاهب. كسبَت إحترام الطبقة السياسية ولو على مضض ولم تَخسر قادتها لأنها أحرجتهم بلطف وأخرجتهم بلطف أكبَر. بمنطق الدولَة يمكن أن تربَح على منطق الزبائنيَّة مِن دون صِدام أو تحدّي لأحَد. أداء هو أشد ما يمكن أن ينتظره الشعب اللبناني في خضمّ أزمة مصيرية هي الأشد والأقسى على حياتهم اليومية. زار قائد الجيش كل عواصم القرار دعمًا لجيشِه وأمّنَ كرامة العسكري عندما كانت الطبقة السياسية ملهيّة بلعبة السلطة المقيتة. حفظ النظام ولم يحمِ الطبقة. حمى الشعب في عزّ انتفاضته في تشرين 2019 وبادر من دون تلكؤ إلى حماية لبنان من المدّ التكفيري عبر معركة الجرود. لم يساوم في حدود لبنان البحريَّة. لم يستفِد من موقعه لتسويق نفسه وتقريش إنجازاته الأمنية. لم يبعها لأحد ولم يشتريها من أحد.

بقي الجيش خارج التجاذبات. أميركا وأوروبا وإيران وسوريا ودول الخليج تعرف أن قائده لم يطلب لنفسه شيئًا وأنه ليس مشروعًا لأي دولة. مقاربته الإداريّة والتنظيمية إضافة إلى المناقبية العالية التي يقود فيها مؤسسة الجيش إذا ما اتُّبِعَت في قيادة الدولة ستعيد الثقة بلبنان وستدفع بالدول المانحة إلى الإنخراط سريعًا في إعادة لبنان إلى دوره الحضاري بين الأمم. أي مرشّح آخَر تتوفّر فيه هذه المواصفات يجب أيضًا التفتيش عنه بالسراج والفتيلة. المسألة ليست في الأسماء. المسألة في المواصفات.

قائد الجيش أحد النماذج وربما ليس النموذج الأوحد. يبقى أنه من المعيب أن يتحوّل اي مرشح إلى ورقة. ورقة بيد طرف وورقة بيد طرف آخَر. سيكون على أي مرشّح إثبات نفسه أنه ليسَ ورقة. يتحرَّر مِن لعنة الأوراق مَن لا يحوّل لبنان إلى ساحة. النموذج هذا يجب ألا يخيف أحدًا. بالعكس. يجب أن يتحوّل في المرحلة المقبلة مطلبًا وطنيّا جامعًا وإسمَ عَلَم يُطرَح مِن دون تحدّي يتماهى مع أي تسوية دوليَّة يُرتَقَب أن تقرر مصير لبنان.

القضاء والأمن والإقتصاد ثلاثيّة جديدة ينتظرها اليائسون والمحبطون والمغتربون والمقيمون من مرشّح بهذه المواصفات. آن الأوان لإطلاق هذه الرغبة الدفينة في قلب وضمير كل لبناني. قائِد الجيش أو غيرُه يمكن أن يختزلوا كل عذابات الشعب اللبناني وانتظاراته. هذا ليس تقريظًا ولا حملة تسويق. إنها فكرة عساها تتحوّل إلى موجة. موجة عكس تلك التي أغرقت لبنان في العتمة والجوع والهجرة. موجة تنعشه وتخرجه من مآسيه المتناسِلَة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم
يرجى الدردشة مع فريقناسوف يرد المسؤول في غضون بضع دقائق
مرحبًا ، هل هناك أي شيء يمكننا مساعدتك به؟ ...
ابدأ الدردشة ...