طرابلس "الثكلى" يصْرعها الموت في البحر... وتُصارِع المكيدة في الشارع

 

جاء في "الراي الكويتية":

لم يكن ليل طرابلس هادئاً على عادته في هذه الليالي الرمضانية المباركة، ولم يكن معتماً ككل أمسيات لبنان الكالحة بلا بصيص ضوء ينير عتمة بيوتاته وساكنيها، ولا كان ليلاً حافلاً بأحلام الفقراء التي تتحدى البؤس وتسافر بخيالها قبل جسدها إلى عالم أفضل تنسى فيه معاناتها اليومية... كان ليلاً تفوح منه رائحة الموت والحزن، رائحة الآمال المحطمة، ليلاً مشتعلاً بالأضواء الكاشفة وأصوات صفارات الإسعاف، وصرخات الأهالي المنتظرين على أرصفة المرفأ متأملين خبراً عن أحبة لهم ابتلعهم «حوت» الفقر... قبل البحر.

ليل طرابلس الأسود اصطبغ من جديد بلون الدماء، مع غرق زورق الهجرة الذي كان يحمل على متنه قرابة 60 أو 75 مهاجراً (غالبيتهم من القبة والتبانة) فاراً من جحيم الفقر والذل في بلد ينهار على رؤوس أبنائه.مأساة جديدة ضربت عاصمة الشمال اللبناني وكأنه كتب لمدينة العلماء أن تبكي أبناءها على الدوام و تدفن أحلامهم وأجسادهم الطرية في بحرها كما في حاراتها وأزقة الفقر فيها.

زورق حمل على متنه عدداً غير محدد من أبناء طرابلس وممن تأويهم المدينة المضياف من سوريين وفلسطينيين، لينطلقوا تحت جنح الظلام في رحلة الهروب من جهنّم والبحث عن مستقبل، لكن الرحلة انتهت قبل أن تبدأ وتهشَّمتْ أحلام ركابها مع تحطم أخشاب المركب ونفاذ المياه الى داخله ومن ثم غرقه في لجة المياه الداكنة. أدمنوا الوجع ما أن تسربت الأخبار عن غرق الزورق وانطلاق عمليات الإنقاذ حتى بدأ تَهافُت الأهالي والأصدقاء نحو مرفأ طرابلس حيث بدأ وصول الناجين الذين تم إنقاذهم ليصار الى نقلهم الى المستشفيات.الخوف والقلق يمتزجان بالغضب والحقد والكل يلعن مَن كان السبب. كلهم يعرفون أن غرق المركب ليس مجرد عطل نقني او حادثة مفتعلة بل هو غرق لوطن حوّله سياسيوه سلة مثقوبة تنساب منها الأرواح و الأحلام و الأموال و الآمال ولا يمكن رقعها.

إحدى الناجيات التي تم إنقاذها مع ولديها الشابين تنتظر بقلق أن تسمع خبر وصول ابنتيها اللتين لا تزالان في عداد المفقودين. هم عائلة من خمسة أشخاص من آل الجندي اختاروا الفرار من جحيم حياتهم «طافشين من هذا البلد ومن سيياسييه الذين يساوون صفراً، صار عنا الغريب أحسن من هون بألف مرة» تحكي الأمّ بحرقة وغضب ممزوجيْن بخوف من مصير أسود لابنتين شابتين تخشى مجرد التفكير به.وهنا أيضاً شاب موجود مع الأهالي ويرفض ذكر اسم مَن يبحث عنه بصوت مرتفع حتى لا يعلم أهله أنه كان على زورق الموت، فهو غادر دون أن يخبر أحداً ولن يتفوه الصديق باسمه قبل أن يتأكد أنه قد نجا ليجنّب ذويه القلق لا يلوم صديقه ولو كان مكانه لفعل مثله «ميتين ميتين ولن تفرق معنا».

بيان الجيش

قيادة الجيش - مديرية التوجيه كانت قد أصدرت ليل السبت - الأحد بياناً أعلنت فيه أنه «بتاريخ 23 / 4 / 2022 تمكنت القوات البحرية التابعة للجيش حتى الساعة من إنقاذ 48 شخصاً بينهم طفلة متوفية كانوا على متن مركب تعرّض للغرق أثناء محاولة تهريبهم بطريقة غير شرعية، قبالة شاطئ القلمون – الشمال، نتيجة تسرّب المياه بسبب ارتفاع الموج وحمولة المركب ‏الزائدة، وقد عملت القوات البحرية بمؤازرة مروحيات تابعة للقوات الجوية وطائرة «سيسنا» على سحب ‏المركب وإنقاذ غالبية مَن كان على متنه حيث قُدمت لهم الإسعافات الأولية ونُقل المصابون منهم إلى مستشفيات المنطقة، فيما تواصل القوى عملياتها براً وبحراً وجواً لإنقاذ آخرين ما زالوا في عداد المفقودين. وتمَّ توقيف المواطن (ر.م.أ) للاشتباه بتورطه في عملية التهريب، وبوشرت التحقيقات باشراف القضاء المختص».

واستمرّت عمليات الإنقاذ طوال الليل بناء على توجيهات رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي الذي استنفر قيادة الجيش ووزارة النقل وشدد على ضرورة بذل كل الجهود ووضع كل الامكانات في خدمة عمليات الانقاذ، كما أوفد وزير النقل علي حمية الى مرفأ طرابلس للاشراف على عمليات البحث وقد صرح أن «إنقاذ الأرواح في هذا الحادث الأليم هو الأمر الذي يستلزم استنفار كل الأجهزة المعنية بعمليات الإنقاذ».

تفاصيل الرحلة

والرحلة المشؤومة بدأت بحسب ما أورد موقع «سفير الشمال» من شاطئ يقع بين القلمون والحريشة جنوب طرابلس، باتجاه محمية جزر النخل التي إتجه نحوها عدد من المهاجرين في قوارب صغيرة عند وقت الغروب وموعد الافطار حيث تكون الحركة في مدن الفيحاء شبه معدومة والرقابة الأمنية غير مشددة. ومع وصول المهاجرين الى الجزيرة التي تبعد عن الشاطئ نحو 5 كيلومترات، تجمّعوا ضمن المركب غير المُعَدّ للسفر مسافات طويلة وإنطلقوا متجهين نحو قبرص، ومنها الى إيطاليا، وبعد إجتياز نحو 2 كيلومترات بعيداً عن الجزيرة تَعَرَّض المركب الى خلل بانتظار أن تكشفه التحقيقات التي من المفترض أن تجريها المخابرات مع الناجين، ما أدى الى غرقه وغرق من فيه على عمق ما بين 300 الى 400 متر.

وأدت أول عمليات البحث والانقاذ إلى انتشال 18 شخصاً، وجثة الطفلة الطفلة تالين محمد الحموي التي تبلغ من العمر سنة ونصف، وتم نقلهم الى مرفأ طرابلس الذي كانت تنتظر فيه سيارات الاسعاف التابعة للصليب الأحمر اللبناني والجمعية الطبية الاسلامية حيث جرى إسعافهم، كما تم إنقاذ 28 شخصاً نقلتهم زوارق الجيش أيضاً الى المرفأ ومنه الى المستشفيات،وبقيت أعمال البحث جارية.وأشارت المعلومات الى أن عدد الناجين بلغ ليلاً 45 شخصاً، إضافة الى الطفلة المتوفاة، في حين بقي 14 شخصاً في عداد المفقودين من دون إمكان الجزم بهذا الرقم الذي قد يرتفع حين يتم التأكد من عدد الذين كانوا موجودين في الأصل على متن المركب.

واللافت أن الجيش اللبناني وفق موقع «سفير الشمال» والصحافي غسان ريفي إستعان بإحدى المروحيات الحديثة التي تكشف كل الأجسام التي قد تكون على سطح البحر، من دون العثور على ناجين جدد، في حين أكدت مصادر مطلعة أنه إذا كان هناك عدد من المفقودين فربما يكونوا قد غرقوا مع المركب خصوصاً أن بعض الركاب لا سيما من النساء والأطفال كانوا يجلسون في أسفل المركب حيث توجد مساحة شبه مغلقة، وبالتالي فإن إنتشالهم قد يكون صعباً للغاية أو ربما مستحيلاً لكون غرق المركب تم على عمق 300 أو 400 متر، وهم بداخله ولا يمكن لأحد أن يصل إليهم لانتشالهم.ومع تكشف ساعات الصباح تم انتشال خمس جثث جديدة وقيل إن العدد وصل الى ثمانية دون أن يتم التأكد من ذلك. أسماء الركاب الذين كانوا على المركب المشؤوم شكلت صدمة للطرابلسيين و اللبنانيين لأن غالبيتهم من العائلات الطرابلسية المعروفة وبينهم عائلات بأكملها من أربعة وخمسة أفراد مثل عائلة دندشي وعائلة الجندي والحموي وشباب في مقتبل العمر وأطفال في ربيعه، فضّلوا خوض غمار البحر ومَخاطره للبحث عن فرص أفضل من واقع لم يترك لهم أي فسحة أمل.

غضب لم يعد مكبوتاً «إما يموت الزعماء وإما يموت الشعب. إما يرحل الزعماء وإما يرحل الشعب!».. بهذه الكلمات اختصر أحد الناجين من مجزرة طرابلس البحرية سبب الهروب من «جهنم» على مركب الموت في طرابلس. فأهل عاصمة الشمال كما كل اللبنانيين «أصبحوا ضحايا لطبقة سياسية فاسدة ومجرمة لم يعد ممكناً العيش معها».

كبير هو الألم الذي يلتمع في عيون المنتظرين في المرفأ. خالة تالين الطفلة المتوفاة وزوجها يخبران أن الأم و الأب لا يزالان بين المفقودين أما الإخوة الصغار فقد صاروا في البيت لكنهم لا يتكلمون ولا يجيبون عن أي سؤال وكأن لسانهم قد ربط من الصدمة والخوف.

الأهالي الذين أمضوا جزءاً من ليلهم على الرصيف صائمين ولم يستطيعوا تَناوُل ولو قطرة ماء عند السحور قُدمت إليهم من المحبين، لا يريدون إلا رأفة الله سبحانه وتعالى بهم وبأبنائهم. ومع اقتراب كل سيارة إسعاف تراهم يهجمون عليها للتأكد إذا كان أحد الأحباء فيها. وهكذا كان وضع آخرين منهم تجمّعوا أمام مركز القوى الأمنية علّهم يستطلعون خبراً جديداً. الإشاعات كثيرة وأسماء كانت تتلى من هنا، ومع كل اسم كان الأهالي يتأملون ورود أي خبر عن الغائبين وبدوا مستعدين لتصديق أي إشاعة ولو كاذبة تطمئنهم عن «الحبايب».

الغضب غير المكتوم ينصبّ كله على المسؤولين والمرشحين الى الانتخابات الذين اتُّهموا بأنهم حاولوا استغلال المأساة للتعبير عن نقمتهم تجاه «الآخَرين» الذين كانوا سبب الجريمة، ولاستجداء العطف والأصوات. ولم يَبْدُ مهماً للمفجوعين والغاضبين إن كان هؤلاء صادقين أم لا، فالظرف ليس بالتأكيد في نظرهم للعراضات الانتخابية و «نفْض الأيدي من دماء الطرابلسيين».

سمير سكاف أحد الناشطين الذين واكبوا ثورة طرابلس كما واكبوا ثورة بيروت يقول «في بحر طرابلس، غرقت الدولة وغرقت السلطة. غرق رجالاتها وأحزابها. غرقت الوعود الكاذبة على مدى سنوات، كما غرقت الوعود الكاذبة بمستقبل أفضل. غرقت الأنانية التي تخطت الوطنية. غرقت الآمال والأحلام. طرابلس مدينة السلام تنزف من جديد! لا حل أمام ابنائها سوى بالرحيل إما الى بلد آخر وإما الى العالم الآخر! لكن المطلوب اليوم أن تتحمل السلطة مسؤوليتها. وأن تترجم ذلك باستقالتها!».

جدل حول الأسباب سبب الغرق بقي مثار جدل. منهم مَن عزاه الى حالة المركب الذي حمل أكثر مما يستطيع في حين أكد عدد من الناجين أن زورقاً آخر تابعاً للجيش اللبناني ارتطم بمركبهم الذي كان مجهزاً أفضل تجهيز وقادراً على مواجهة رحلة كهذه وان قائده كان قد حمل معه عائلته الى المركب. فالجيش بحسب قولهم كان يحاول ردعهم عن السفر وحضّهم على العودة، ولذا ارتطم قاربه بمركبهم أكثر من مرة ما أدى الى انفجار شيء ما على متن المركب أدى الى دخول الماء إليه وغرقه شيئاً فشيئاً وعدم قدرة بعض مَن كانوا على متنه في الطابق السفلي على مغادرته.

أخبار تفاعلتْ وسط أصوات ارتفعت بأن ثمة حملة مدسوسة تهدف الى توريط الجيش اللبناني في حين كان أول مَن سارع الى تجنيد كافة طاقاته من أجل عملية الإنقاذ. وعلى وقع هذه المناخات، شرح العقيد الركن هيثم ضناوي قائد القوات البحرية في الجيش اللبناني في مؤتمر صحافي من قاعدة بيروت البحرية ملابسات غرق المركب موضحاً أنه صناعة 1974 وصغير طوله عشرة امتار وعرضه 3 امتار، والحِمل المسموح له هو 10 اشخاص فقط ولا وجود لوسائل أمان فيه. وقال: «عملنا على وقف الزورق واقناع قائده بأن المركب معرض للغرق، وهو كان محملا بما يزيد عن 15 أضعاف حمولته المسموحة، ولم يكن مزوّداً بسترات إنقاذ ولا أطواق نجاة وحاولنا ان نمنع المركب من الانطلاق ولكنه كان أسرع منا».

وأوضح قائد القوات البحرية أن حمولة المركب لم تكن تسمح له بأن يبتعد عن الشاطئ و «لم يقتنعوا من عناصرنا الذين يعانون نفس معاناتهم، وقائد المركب اتخذ القرار بتنفيذ مناورات للهروب من الخافرة بشكل أدى إلى ارتطامه، ولم يتم استعمال السلاح من قبل عناصرنا».

... إنها واحدة من ليالي عاصمة الشمال الحزينة. فهل تكون مأساة المركب بداية لأحداث أمنية جديدة تهدف الى زعزعة الوضع في طرابلس من خلال دق إسفين بين الجيش والناس؟ أم جرس إنذار للمسؤولين بأن الوضع وصل الى القعر وأن الناس على أبواب الانفجار على قاعدة «عليّ وعلى أعدائي» و«لم يعُد لدينا ما نخسره»؟

وبدا هذا السؤال مشروعاً مع انزلاق الوضع الأمني في طرابلس بدءاً من بعد ظهر الأحد إلى توترات بدت مدجَّجة بمخاوف من انفلات الواقع نحو فوضى كبيرة في سياق «مكيدة»متعددة الهدف.

وسادت طرابلس حال من الغضب الشديد وسط قطع طرق وإطلاق رصاص ودعوات للنزول إلى الشارع، وصولاً إلى تسجيل إشكال في منطقة القبة بين عدد من الشبان على خلفية تعليق صورة لأحد السياسيين تطوّر لاحقاً إلى إطلاق نار من مسدس حربي، إذ أقدم المدعو ع. ش. على إطلاق النار نحو المدعو م. م. وإصابته برأسه، ما أدّى إلى وفاته على الفور. وعقب مقتل م، تفلّت الوضع الأمني أكثر في منطقة البقار، بالقرب من منزل الضحية، مع إحراق دراجة نارية وإطلاق رصاص. وفيما فر مطلق النار إلى جهه مجهولة، اشتعلت منطقة القبة غضباً وسط إطلاق كثيف للنيران.

وفي سياق متصل، ومع قطع واسع للطرق في القبة والتبانة واوتوستراد طرابلس – عكار ومناطق أخرى بالسيارات والإطارات المشتعلة بالتزامن مع إزالة صور السياسيين والمرشحين للانتخابات، اشتدّ التوتر بعد تحطيم محتجّين غاضبين حاجز الطبابة العسكرية التابع للجيش، قبل أن تندلع اشتباكات في محيط المستشفى الحكومي في القبة بين الجيش وغاضبين حطموا محتويات المستشفى.

وأفيد لاحقاً أن قوّة للجيش تعرضت للرشق بالحجارة في محلة البقار، وأنه بعد قيام الجيش بإخلاء 3 حواجز له في القبة، انتقل التوتر إلى محيط الثكنة العسكرية ومركز الشرطة العسكرية في طرابلس، حيث حصل إطلاق نار غزير.

وفيما سُجلت دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي للجيش للانسحاب من المدينة وترْك الناس «يصفّون حساباتهم مع السياسيين»، اتسعت عمليات قطع الطرق إلى بيروت (الكولا وقصقص وغيرها) كما البقاع، في ظل ملامح تصعيد إضافي في الشارع.

المصدر : الراي الكويتية

إرسال تعليق

أحدث أقدم
يرجى الدردشة مع فريقناسوف يرد المسؤول في غضون بضع دقائق
مرحبًا ، هل هناك أي شيء يمكننا مساعدتك به؟ ...
ابدأ الدردشة ...