المجلس الشيعي الأعلى... على خط التجاذبات السياسية!


دخلت المؤسسة الدينية الشيعية المتمثلة بـ«المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» في الأسبوع الماضي، على خطّ التجاذبات السياسية القائمة، للمرة الأولى بتاريخها، وتدحرج الخطاب الرسمي فيها من أدبياته كـ«مكان للوصل» بين القوى المتصارعة، إلى موقع الرد على البطريركية المارونية من غير تسميتها، وهو ما أثار التباسات وتكهنات حول تبدل الخطاب الديني الشيعي الرسمي في ظل الموقف الشيعي المعترض على «مسار عمل» التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت.

وللمرة الأولى، يحذر نائب رئيس المجلس الشيخ علي الخطيب من «تجاوز لطائفة أساسية بغية تغييبها عن المشهد السياسي»، وذلك في بيان تصعيدي شديد اللهجة، أتى كرد واضح على كلام للبطريرك الماروني بشارة الراعي يوم الأحد الماضي، سأل فيه: «كيف تمعن فئة نافذة في تعطيل مجلس الوزراء باسم الميثاقية التي تشوه؟»، وذلك إثر الخلافات المتنامية على إجراءات المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، واتهام «حزب الله» و«حركة أمل» له بتسييس التحقيقات والاستنسابية بالاستدعاءات القضائية، في مقابل دعم الراعي والقوى السياسية المسيحية لإجراءاته.
وقرأت أقطاب مسيحية تبدلاً في خطاب المؤسسة الدينية الشيعية، بالنظر إلى أن المجلس، منذ تأسيسه، نأى بنفسه عن الصراعات والتباينات السياسية، وحافظ على خطابه المعتدل في عدة مفاصل شهدت انقسامات سياسية في السابق، متجنباً الاصطفاف. أما الآن، فترصد مصادر مسيحية «قطيعة من المجلس» باتجاه البطريركية المارونية، تزامنت مع «ازدواجية في الخطاب» ضمن المؤسسة الشيعية، في إشارة إلى تصريحات المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان التصعيدية منذ صيف 2020، إثر إعلان الراعي عن مبادرته للحياد الناشط، فضلاً عن تدرج في خطاب «المجلس الإسلامي الشيعي» من مهادنة وتمايز، إلى الدخول على خط الردود في الأسبوع الأخير.
وإزاء الازدواجية في الخطاب، تدعو مصادر سياسية شيعية مواكبة لملفات المجلس، إلى الأخذ بعين الاعتبار بأن «دار الإفتاء الجعفري» التي يرأسها المفتي الشيخ أحمد قبلان «لا تعبر عن الموقف الرسمي للمجلس». وإذ توضح لـ«الشرق الأوسط» إن مهام دار الإفتاء تختلف عن مهام المجلس، تشير إلى أن قبلان «يعبّر عن رأيه»، بينما الموقف الرسمي للمجلس يعبر عنه رئيسه أو نائب الرئيس، وهو الشيخ علي الخطيب الآن، بعد وفاة الشيخ عبد الأمير قبلان في الصيف الماضي.

وترفض المصادر التهم الموجهة إلى المجلس ومن بينها «انزلاقه» إلى الخلافات السياسية، مشددة على أن «الشيعة ما زالوا في الموقف الوطني العام محوراً للتواصل والالتقاء بين اللبنانيين»، لكنها تشير إلى أن «التباينات التي ظهرت في الخطاب الأخير، هي ناتجة عن مواقف الآخرين»، موضحة أن «هناك طائفة بكل أركانها، تطالب بتصويب مسارات قاضٍ يسيّس التحقيقات ويمضي بالاستنسابية، وفي المقابل لا أحد من الطوائف الأخرى يتجاوب مع نداءات الطائفة»، مضيفة: «لو كان الأمر معكوساً، وثمة ملاحظات لطائفة معينة على أداء شخص، لكان المجلس وقف إلى جانبها لحماية الموقف الوطني وتحصيل الحق».

خطاب متشنج
و«المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» الذي أسسه الإمام موسى الصدر في ستينات القرن الماضي، واختار منطقة الحازمية ذات الأغلبية المسيحية مقراً له، عُرف بانفتاحه على مختلف الطوائف واعتداله، و«أراده الصدر منبراً للقاء بين الجميع، وصرحاً للتعايش الإسلامي المسيحي والعيش المشترك، والتلاقي وجمع الناس»، بحسب ما يقول النائب الثاني لرئيس المجلس الدكتور ماهر حسين، مذكراً باعتصام الصدر في الحرب الأهلية بمسجد العاملية مع قوى وشخصيات وطنية رفضاً للحرب. لكنه في الوقت نفسه، يشير في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن هذا الدور الذي لعبه الصدر وبعده شمس الدين وقبلان «لا يستطيع أحد أن يغطيه كونه (الصدر) شخصية فريدة في تاريخنا»، لافتاً إلى أن الخطيب «لا صلاحية كاملة له بعد، لكنه يتحدث بالمنطق نفسه الذي يتحدث به رؤساء المجلس السابقون».

وينفي حسين أن تكون هناك مخاوف من «عزل الطائفة»، مؤكداً أنه في لبنان «لا أحد يستطيع عزل الآخر، ببلد محكوم بالتوافق. لكن هناك تجاذبات سياسية تطلق الصراع أحياناً»، شارحاً أن «هناك من يحاول توجيه الاتهامات والمسؤوليات في ملف المرفأ باتجاه طائفة وفريق معين، وهو ما تنتج عنه ردود فعل خوفاً من التسييس»، نافياً أن يكون الصراع مع بكركي، مؤكداً: «إننا مصرون على التعايش والانفتاح، ولو أن هناك برودة بالأمور السياسية ناتجة عن التأزمات الأخيرة».

تبدل في المقاربات السياسية

وبينما يقول القيمون على المجلس إنه يصرّ على عدم الانجرار إلى موقع صراع سياسي، ويحاذر الاصطفاف واقتياد الخطاب إلى خطاب طائفي، لافتين إلى أن التدرج بالخطاب ناتج عن التطورات السياسية فقط، يتوقف في المقابل معارضون شيعة عند التبدل في خطاب المجلس الآن، ويتخوفون من جرّه من مكان للوصل إلى خطاب فصل، مسجلين تغيرات في المقاربات. ويقول مصدر معارض إن الرئيس السابق للمجلس «كان يدعو لقمة روحية عند كل منعطف، ويزور بكركي في بعض المفاصل لإيضاح بعض الأمور، ولم يكف عن الدعوة إلى كلمة سواء في ظل الانقسامات العمودية، خلافاً لما يجري الآن، حيث يبدو أن هناك قطيعة مع بكركي من قبل المؤسسة الدينية الشيعية، رغم أنه لا قطيعة معها على مستوى الشخصيات السياسية، حيث يتواصل رئيس مجلس النواب نبيه بري مع الراعي الذي زاره في عين التينة الشهر الماضي، وهو أمر لافت على مستوى مؤسسة الطائفة».

ويرفض النائب الثاني لرئيس المجلس تحميل الشيخ علي الخطيب مسؤولية القطيعة مع بكركي. ويقول إن هذا الأمر عائد إلى الظروف الأخيرة لجهة «الفراغ» في رئاسة المجلس بغياب رئيس أصيل له، والظروف الصحية التي عاني منها رئيسه السابق الشيخ عبد الأمير قبلان قبل وفاته.
ويلتقي هذا الموقف مع تأكيدات سياسية شيعية بأن «لا قطيعة مع بكركي، ولا مصلحة لأحد بالقطيعة معها، في وقت لم يمضِ على تسلم الشيخ الخطيب مهامه كنائب لرئيس المجلس أكثر من ثلاثة أشهر بعد».
ولم ينتخب المجلس بعد رئيساً له، وتقترب ولاية الهيئتين الشرعية والتنفيذية من نهايتهما، ويجري التواصل بين «حركة أمل» و«حزب الله»، أكبر المكونات السياسية الشيعية في البلاد، للتوصل إلى صيغة حول الانتخابات لإجرائها سريعاً، أو تمديد ولاية الهيئتين إلى فترة زمنية قصيرة.

مع سقوط التسوية السياسية التي أراد منها الثنائي الشيعي الإطاحة بالمحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، التي تردد أن مقابلها سيحصل رئيس التيار النائب جبران باسيل وفريقه على مكاسب في قانون الانتخاب، يتجه السياسيون المتضررون من تحقيقات المرفأ إلى تعطيل هذه التحقيقات بأي ثمن، وقطع الطريق على ملاحقتهم، وهذا ما يترجم بالدعاوى التي تقدم ضد البيطار في محاولة لكف يده عن الملف، أو أقله تجميد إجراءاته في الفترة الفاصلة ما بين انتهاء الدورة العادية للبرلمان اللبناني الممتدة في الأول من يناير (كانون الثاني) المقبل، وعودة انعقادها في منتصف شهر مارس (آذار) المقبل.
ويلاحق في ملف المرفأ ثلاثة نواب حاليين هم غازي زعيتر وعلي حسن خليل ونهاد المشنوق، إضافة إلى رئيس الحكومة السابق حسان دياب ووزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس، بجرائم «الإهمال وعدم القيام بواجبهم عبر التغاضي عن تخزين آلاف نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت لمدة سبع سنوات، والقصد الاحتمالي الذي نجم عنه قتل 220 شخصاً جراء الانفجار وإصابة أكثر من 6000 شخص بجروح مختلفة».

وتتضارب الآراء القانونية حول صوابية استدعاء النواب الذين يتمتعون بالحصانة البرلمانية. وتنص المادة 97 من نظام البرلمان اللبناني على أنه «إذا لوحق النائب بالجرم المشهود، أو خارج دورة الانعقاد، أو قبل انتخابه نائباً تستمر الملاحقة في دورات الانعقاد اللاحقة، من دون الحاجة إلى طلب إذن المجلس، ولكن على وزير العدل أن يحيط المجلس علماً بالأمر في أي جلسة يعقدها، وللمجلس الحق عند الاقتضاء، وقف الملاحقة بحق النائب وإخلاء سبيله مؤقتاً أثناء الدورة إذا كان موقوفاً وذلك إلى ما بعد دورة الانعقاد».
ويواجه المحقق العدلي حتى الآن 18 دعوى قدمت ضده لكف يده عن الملف، جرى رفض معظمها في حين لم تبت المحاكم بما تبقى منها، ويعترف رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق القاضي غالب غانم، بأنه «لم يسبق أن شهد هذا الكم من الدعاوى بحق قاضٍ طيلة مسيرته القضائية التي دامت 45 عاماً». وأوضح القاضي غانم لـ«الشرق الأوسط»، أن «دعاوى الرد ضد القضاة هي حق يكفله القانون للمتهمين أو المدعى عليهم، لضمان حقوقهم والدفاع عن أنفسهم، ولكن ضمن المنطق». ورأى أنه «من واجب المحاكم النظر بصوابية هذه الدعاوى من عدمها وأن تعالج أي خلل إذا ما وجد».
وتثير الدعاوى المشار إليها غضب وكلاء المتضررين من انفجار المرفأ بسبب عرقلة التحقيق، والتأخر في صدور القرار الاتهامي، ويبحث هذا الفريق عن مخارج قانونية تطلق يد المحقق العدلي مجدداً، واعتبر المحامي مازن حطيط، أحد وكلاء الادعاء المتطوعين الذين يمثلون الضحايا المهمشين (الأجانب الذين لا يستطيعون دفع تكاليف توكيل محامين)، أن هذه الدعاوى «تخطت الحق القانوني للدفاع». وقال لـ«الشرق الأوسط»: «أصبحنا في إطار التعطيل المقصود لوقف التحقيقات، وأمام تعدٍ مقصود على التحقيق دخل فيه للأسف بعض القضاة، بينها ارتكابات القاضي حبيب مزهر، الذي جمد التحقيق لأسابيع عدة». ورأى أنه «ما دام يتردد القضاء ولا سيما مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي في المعالجة، ولا يضع حداً لهذه الارتكابات فسنمضي بالتعسف».

وفي غياب النصوص القانونية التي تحد من هذه الدعاوى، دعا المحامي حطيط محاكم التمييز إلى «وضع حد لهذا التعسف، وأن تعطي الحق للمتضررين بالمطالبة بتعويضات عند رد الدعاوى المقدمة من المدعى عليهم والتي تعرقل مسار التحقيق، لتكون بمثابة إجراءات ردعية». وشدد على أن فريق الدفاع عن المتضررين «يدرس الوسائل القانونية التي تحمي حقوق الموكلين، منها تقديم دعاوى ضد قضاة المنظومة السياسية الذين يسهمون بعرقلة التحقيق»، لافتاً إلى أن «هذه الخطوات القضائية ستبدأ مطلع السنة المقبلة، مع استشراس المنظومة في مواجهة التحقيق بعد سقوط الصفقة المزعومة، وعزمها على حماية أزلامها الملاحقين بملف المرفأ».


من جهته، اعتبر أحد وكلاء الدفاع عن النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر، أن «الدعوى التي قدمت قبل أيام قليلة أمام محكمة التمييز برئاسة القاضي ناجي فيها، تتضمن كل أسباب رد القاضي طارق البيطار، وفيها ما يكفي من عناصر الارتياب في أدائه». ولا يتخوف المحامي الذي رفض ذكر اسمه، من نتائج رفض هذه الدعوى إذا حصل ذلك، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «هي ليست نهاية المطاف وقد نتقدم بدعاوى جديدة مماثلة». وعما إذا كانت إجراءات المحقق العدلي تحرج النواب المدعى عليهما بملف المرفأ، خصوصاً بعد أن وضعت النيابة العامة التمييزية مذكرة التوقيف الغيابية بحق النائب خليل موضع التنفيذ بعد انتهاء الدورة العادية للبرلمان، شدد المحامي المذكور على أن «الفريق القانوني للنائبين خليل وزعيتر لا يخوض سباقاً مع الوقت خلال انعقاد الدورة العادية للمجلس النيابي أو بعدها». وتابع: «لا نخشى انتهاء الدورة العادية للمجلس ولن نتوقف عند هذا الأمر، أما بخصوص مذكرة التوقيف بحق النائب علي حسن خليل فهي لا تعنينا لأنها غير قانونية».

نذير رضا- الشرق الاوسط

إرسال تعليق

أحدث أقدم
يرجى الدردشة مع فريقناسوف يرد المسؤول في غضون بضع دقائق
مرحبًا ، هل هناك أي شيء يمكننا مساعدتك به؟ ...
ابدأ الدردشة ...