باسيل لا يزال مهمّاً للحزب… ولكن!


 وحده الحزب من بين أركان الحكم لم يسارع أو يضطرّ إلى التّنصّل من الصفقة السياسيّة – القضائية التي كان يجري إعدادها في كواليس السلطة، فيما سارع الآخرون جميعاً إلى غسل أيديهم منها فور سقوطها وكان أسرعهم نجيب ميقاتي الذي، كما يقول المثل الشعبي، وضع بحصتين للرئيس نبيه برّي في قدرته على المناورة السياسيّة، وأثبت أيضاً كفاءة استثنائية في فنون المسرح، إضافة إلى موهبته في استحضار الأمثال الشعبية.

لقد كانت تلك الصفقة مثالاً إضافياً على نوعيّة الصفقات التي يُجريها أركان السلطة، فإذا نجحت صفقاتهم وبقيت أسرارها طيّ الكتمان كانت أفضل الصفقات وذروة الوطنيّة والأخلاق، وإذا فشلت وانفضح سرّها فهي أنتن الصفقات وأكثرها انحطاطاً وطنيّاً وأخلاقياً.

هكذا أكّد سقوط الصفقة حقيقة السلطة الحالية بوصفها سلطة الغرف السوداء والخناجر المسنونة لا لطعن الخصوم بعضهم بعضاً، بل الحلفاء أيضاً.

مرّة جديدة تأكّد العالم من خلال انطباعات الأمين العامّ للأمم المتحدة عن زيارته للبنان أنّ الانهيار يحصل بعيداً جدّاً عن قلوب وعقول المسؤولين، وأنّ الشروط الجديدة للّعبة السياسيّة باتت أشبه بشروط الحرب الأهليّة التي سرعان ما ينتقل الصراع فيها من الجبهات المتقابلة إلى داخل الجبهة الواحدة، وهذه حال التيار الوطني الحرّ وحزب الله.

إذّاك لم يعد الصراع الرئيسي بين أهل السلطة والمعارضة المشتّتة والضعيفة التي يتلهّى أركانها في صراعاتهم الانتخابية، وقد أصبح بعضهم رائداً في الأعمال الإنسانية يطوف لبنان من شماله إلى جنوبه لتقديم الهدايا لأطفال القرى النائية، وقد بلغ الخلط بين الأعمال الإنسانية والأهداف السياسية أعلى درجاته.

وحده حزب الله يُكمل طريقه وكأنّ شيئاً لم يكن، فالكلّ في حاجة إليه، ولذلك هو مطمئنّ أنّ أحداً من حلفائه الأقربين أو الأقلّ قرباً لا يقوى على هجره، فهو يأخذ من فلان ويعطي علّاناً، ثمّ يعطي فلاناً ويأخذ من علّان. فالكلّ في ملعبه، وهو كلاعب الوسط في فريق كرة القدم يمرّر الطابة إلى مَن يشاء ويحجبها عمّن يشاء وفق الخطّة التي تضمن له تسجيل الأهداف في مرمى الخصم.

هذه المرّة لم يمرّر الحزب الطابة إلى جبران باسيل الذي لم يفقد لياقته السياسيّة، لكنّه أصبح محاصَراً من لاعبين كثر في الداخل والخارج، وبات الأمر يتطلّب منه قدراً أكبر من المناورة ليتمكّن من الإفلات منهم والوصول إلى هزّ شباك خصومه مع العلم أنّ الحزب لم يفقد رهانه على رئيس التيار الوطني الحر، لكنّه لم يعد قادراً على الرهان عليه دون غيره وقد تبدّلت شروط اللعبة لا في لبنان وحسب، بل في الإقليم أيضاً.

ما يزال باسيل مهمّاً للحزب، لكن ليس بالمقدار السابق بعدما تقدّم لاعبون آخرون في أولويّات الحزب، ولا سيّما اللاعبون السّنّة، لأنّ الحزب مهتمٌّ بالساحة السنّيّة في لحظة التحوّلات الإقليمية الكبرى التي قد تفضي إلى عقد تفاهمات إقليمية لا بدّ أن تنعكس على الساحة الداخلية، وتحديداً في طبيعة العلاقات السياسيّة بين الأطراف السنّية والأخرى الشيعية.

لقد أكّد سقوط الصفقة الأخيرة بما لا يقبل الشكّ ضيق الهامش في الحركة السياسيّة لباسيل الذي ما عاد قادراً على صوغ سياساته من دون الأخذ في الاعتبار المزاج المسيحيّ العامّ الذي أصبح أكثر رفضاً للحزب من ذي قبل، ناهيك بالحساسيّة المسيحيّة اتجاه ملفّ التحقيقات في تفجير مرفأ بيروت، التي يخشى باسيل استفزازها.

لذلك من المؤكّد أنّ هناك تحوّلاً في العلاقة بين الحزب والتيار الوطني الحرّ، وهو تحوّل لم يأخذ شكله النهائي بعد، لكنّه تحوُّل سينعكس حتماً في حركة الطرفين. لقد بات الحزب أقلّ استعداداً لتلبية طلبات باسيل على حساب علاقته مع حلفائه الآخرين، ولا سيّما الرئيس نبيه برّي، وأيضاً نجيب ميقاتي ما دام الحزب يولي الساحة السنّيّة الآن اهتماماً خاصّاً، وذلك لأنّه يريد ترميم العلاقة مع "المكوِّن السنّيّ". 

ويطمح الحزب أيضاً إلى تحسين حصّته النيابية في صفوف السنّة تعويضاً عن خسارته المسيحيّة المحتملة، أو بالحدّ الأدنى يريد امتصاص المعارضة النيابية والسياسية السنّيّة له، أقلّه في الملفّات الرئيسية، مع العلم أنّ دينامية التقارب الشيعي - المسيحي لم تعُد بالقوّة التي كانت عليها في أوج الصراع السنّيّ - الشيعي في المنطقة.أمّا جبران باسيل فإنّ بقاءه على قيد الحياة سياسياً بات رهناً بقدرته على إدارة علاقته مع الحزب. 

وهذا تحدٍّ غير سهل أبداً لباسيل، فهو إذا التصق بالحزب احترق، وإذا ابتعد عنه يصاب بجروح أيضاً. ولذلك هو مضطرّ في كلّ مرّة إلى إعادة إنتاج مسافة آمنة من الحزب على نحو لا يجعله يؤلّب الرأي العام المسيحي ضدّه حتّى داخل تياره، وفي الوقت نفسه عليه أن يضمن رضى الحزب عليه أو عدم تقلّص حاجته إليه، مع الأخذ في الاعتبار أنّ باسيل ما عاد قادراً بعد 17 تشرين 2019 على التحكّم بالخطاب السياسي المسيحي لابتزاز خصومه التقليديين في الوسط المسيحي.

يختلف المشهد المسيحي الآن عمّا كان عليه قبل "ثورة تشرين" وانفجار الرابع من آب، وهو ما جعل باسيل عاجزاً عن التنازل إلى ما دون السقف السياسي الذي بات يحدّده المزاج المسيحي الجديد. وهذا ما أظهره بوضوح سلوك الرجل في مفاوضات الصفقة الأخيرة.

لكن على الرغم من كلّ تلك التحوّلات، فإنّ باسيل سيوظّف كلّ طاقاته لإعادة استنفار عصبيّة مسيحية على قاعدة أنّ هناك مسّاً بصلاحيّات رئيس الجمهورية، وأنّ الشيعة والسنّة، ومعهم الدروز وبعض المسيحيين، يشكّلون تحالفاً رباعياً ضدّ الرئيس وتيّاره المناديَيْن بحقوق المسيحيين السليبة.

أيّاً يكن من أمر فإنّ دلالات سقوط الصفقة السياسية – القضائية تتجاوز حيّزها الضيّق المتّصل بحلّ إشكاليّة المحقّق العدلي في ملفّ تفجير المرفأ وعودة مجلس الوزراء إلى الانعقاد وبتّ تعديلات القانون الانتخابي فشروط التفاوض حول هذه الصفقة، والهويّة السياسية للمتفاوصين تدفعان إلى تصوّر شروط وأطراف التفاوض حول التسوية الكبرى للأزمة اللبنانية الشديدة التعقيد. 

فهل الأفرقاء الرئيسيون في "الصفقة الصغرى" سيكونون هم أنفسهم الأفرقاء الرئيسيين في التسوية الكبرى؟ وهل تحدّد الانتخابات النيابية هويّة الجالسين الآخرين إلى الطاولة، وتحديداً لدى المسيحيين والسنّة؟ كلّها أسئلة تبقى الإجابات عليها رهناً بتطوّرات الأشهر المقبلة، وللحديث صلة.يلي القصيفي - اساس ميديا

إرسال تعليق

أحدث أقدم
يرجى الدردشة مع فريقناسوف يرد المسؤول في غضون بضع دقائق
مرحبًا ، هل هناك أي شيء يمكننا مساعدتك به؟ ...
ابدأ الدردشة ...